للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكل هذه الأقوال على أن مثابة: من ثاب يثوب إذا رجع وهو الأظهر، وفسرها عطاء على أنها من الثواب: الذي هو الجزاء، والمعنى: على أن البيت موضع ثواب يثاب فيه الناس بحجهم واعتمارهم فيه (١).

وفي رجوعهم إليه وجهان (٢):

أحدهما: أنهم يرجعون إليه المرة بعد المرة. وهذا قول الجمهور (٣).

والثاني: أنهم في كل واحد من نُسُكَيَ الحج والعمرة يرجعون إليه من حل إلى حرم؛ لأن الجمع في كل واحد من النسكين بين الحل والحرم شرط مستحق.

وقد اختلف أهل اللغة في (المثابة) في السبب الذي من أجله أنثت على قولين (٤):

أحدهما: أن (الهاء) ألحقت في (المثابة)، لما كثر من يثوب إليه، كما يقال: (سيارة)، لمن يكثر ذلك، (ونسابة). وهو قول بعض نحويي البصرة.

والثاني: أن (المثاب) و (المثابة) بمعنى واحد، نظيرة (المقام) و (المقامة)، و (المقام)، ذكر - على قوله - لأنه يريد به الموضع الذي يقام فيه، وأنثت (المقامة)، لأنه أريد بها البقعة، وأنكر هؤلاء أن تكون (المثابة) كـ (السيارة)، و (النسابة)، وقالوا: إنما أدخلت الهاء في (السيارة) و (النسابة)، تشبيها لها بـ (الداعية). وهذا قول بعض نحويي الكوفة.

وقرأ الأعمش: {مثابات} على الجمع، لأنه مثابة لكل من الناس لا يختص به واحد منهم {سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ}، فيحتمل أن يكون من الثواب، أي يثابون هناك (٥).

قوله تعالى: {وَأَمْنًا} [البقرة: ١٢٥]، "أي وجعلناه أمناً للناس" (٦).

قال ابن عثيمين: "أي مكان أمن يأمن الناس فيه على دمائهم، وأموالهم، حتى أشجار الحرم، وحشيشه آمن من القطع" (٧).

قال الحافظ ابن حجر (٨): " أي: موضع آمن (٩)، وهو كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: ٦٧] والمراد ترك القتال فيه (١٠).

قال ابن عطية: " معناه: أن الناس يغيرون ويقتتلون حول مكة وهي آمنة من ذلك، يلقى الرجل بها قاتل أبيه فلا يهيجه، لأن الله تعالى جعل لها في النفوس حرمة وجعلها أمنا للناس والطير والوحوش" (١١).


(١) انظر: المحرر الوجيز لابن عطية: ١/ ٣٥١، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ٢/ ١١٠، البحر المحيط لأبي حيان: ١/ ٣٨٠، الدر المصون للسمين: ١/ ٣٦٤، روح المعاني للألوسي: ١/ ٣٧٨.
(٢) انظر: النكت والعيون: ١/ ١٨٦.
(٣) انظر: تفسير الطبري: ٢/ ٢٦ - ٢٩.
(٤) انظر: تفسير الطبري: ٢/ ٢٤ - ٢٥.
(٥) تفسير القرطبي: ٢/ ١١٠، وتفسير البيضاوي: ١/ ١٠٥.
(٦) تفسير ابن عثيمين: ٢/ ٤٤.
(٧) تفسير ابن عثيمين: ٢/ ٤٤.
(٨) الفتح: ٣/ ٥١٤.
(٩) انظر: الكشاف للزمخشري: ١/ ٣٠٩، مفاتيح الغيب للرازي: ٤/ ٥١، أنوار التنزيل للبيضاوي: ١/ ٨١.
(١٠) أي: ترك الجاهليين القتال فيه، وذلك أن الناس كانوا يغيرون ويقتتلون حول الحرم والناس فيه آمنون، حتى إن الرجل يلقى به قاتل أبيه فلا يهيجه ولا يعرض له حتى يخرجِ منه؛ لأن الله جعل له في النفوس حرمة قال-عز وجل-ممتناً عليهم: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: ٤] وقد استدل بهذه الآية قوم على أن الحدود لا تقام في الحرم، وهذا محل نظر فإن الانتصاف من الجناة والضرب على أيدي الظلمة وحراسة البلاد وتأمين السبل من العابثين غاية الأمن، وإنما الآية في مقام الامتنان على أهل الجاهلية، أما في الإسلام فقد أغنى الله عباده بما شرعه لهم من أحكام. انظر: جامع البيان للطبري: ٣/ ٢٩ - ٣٠، النكت والعيون للماوردي: ١/ ١٨٦، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ٢/ ١١١، المحرر الوجيز لابن عطية: ١/ ٣٥٢، التحرير والتنوير لابن عاشور: ١/ ٧٠٩، أحكام القرآن لابن العربي: ١/ ٣٨.
(١١) المحرر الوجيز: ١/ ٢٠٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>