للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقد جعل سكب الدموع - وهو البكاء - كناية عما يستلزمه فراق الأحبة من الكآبة والحزن وهذا كلام صحيح سليم، لأنه كثيراً ما تجعل الدموع دليلاً على الكآبة والحزن.

يقال: أبكاني الدهر، وأضحكني، أي: ساءني، وسرني، قال الحماسي:

أبكاني الدهر، ويا ربما ... أضحكني الدهر بما يرضى

ولكنه أخطأ في الكناية عما يوجبه دوام التلاقي والوصال من الفرح والسرور، بجمود والعين وذلك لأن الانتقال من جمود العين إلى بخلها بالدموع حال إرادة البكاء، وهي حالة الحزن على مفارقة الأحبة، لا إلى ما قصده الشاعر من السرور الحاصل بملاقاة الأصدقاء، ومواصلة الأحبة.

ولهذا لا يقال في الدعاء: لا زالت عينك جامدة، كما يقال: لا أبكى الله عينك.

ويقال: سنة "جماد"، لا مطر فيها، وناقة "جماد: لا لبن فيها، كأنهما تبخلان بالمطر واللبن.

ويقول: أبو عطاء السندي، من قصيدة يرثي بها ابن هريرة:

ألا إن عيناً لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود

عشية قام النائحات وشققت ... جيوب بأيدي مآتم، وخدود

فإن تمس مهجور الغناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود

فأتى "بالجمود" تأكيداً لنفي الجود، ومحال أن يجعلها لا تجود بالبكاء، وليس هنا التماس بكاء، لأن الجود والبخل يقتضيان مطلوباً يبذل أو يمنع (١).


(١) ... دلائل الإعجاز ص ١٧٦.

<<  <   >  >>