والتَّأْسيسُ معناه الأَصْل والأَساس؛ يعني: هذا مَعْنًى جديدٌ غَيْرُ المَعْنى الأَوَّل، فإذا قال قائل مثلًا: هذه الجُمْلَةُ مُؤَكِّدَة للأولى، وقال الثاني: هذه الجُمْلَة مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسها، فإنَّه يُحْمَل على أنَّها مُسْتَقِلَّة بنفسها.
وأقول: الأحياءُ والأَمْواتُ يُراد به الحياةُ الحِسِّيَّةُ والمَوْت الحِسِّيُّ، فكلٌّ يَعْرِف الفَرْقَ بين الحَيِّ والمَيِّت، حتى الكُفَّارُ يَعْرِفونَ الفَرْقَ بين الحَيِّ والمَيِّت، والذي يماثل هذه الأشياء النَّفْسِيَّة من الأُمُور المَعْقولَةِ هو مَثَلها.
وَقَوْل المُفَسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ: [وزيادَةُ (لا) في الثَّلاثَةِ تَأكيدٌ]، هذه الجُمْلَة أفادت أنَّ لدينا زيادَةً، وأنَّ الفائِدَة من الزِّيادَة التَّوْكيدُ، فالزِّيادَة في هذه الثَّلاثِ:{وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} وفي قَوْله تعالى: {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} وفي قَوْله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} فـ (لا) خَمْسُ مرات، لكنْ جَعَلَها المُفَسِّر رَحِمَهُ اللهُ ثلاثة؛ لأنَّ المُتقابِلَ فيها ثلاثة، (الظُّلُمات والنُّور) هذه يريد أن تكون واحِدَة، و (الظِّلُّ والحرور) واحِدَةٌ، و (الأحياء والأموات) واحِدَةٌ، المُهِمُّ أنَّ الزِّيادَة التي جاءت في المواضِعِ كُلِّها سواء قلنا: ثلاثَة أو خَمْسة فهي للتوكيد؛ إذ لو قيل:(وما يستوي الأعمى والبصير، والظُّلمات والنُّور، والظِّلُّ والحَرور، والأَحْياءُ والأموات) استقام الكَلَامُ، لكِنْ يُؤتَى بـ (لا) الزَّائِدَة للتَّوْكيدِ.
وفيها أيضًا فائِدَة ثانِيَةٌ: وهي عَدَمُ السَّآمَة والمَلَل؛ لأنَّها لو حُذِفَت لطالت المعطوفاتُ بَعضُها مع بعض، فكرَّر فيها عامِل النَّفْيِ ليكون أَبْعَدَ عن السَّآمَةِ.
فإن قُلْتَ: هل لذلك نظيرٌ في كِتَاب الله؟
فالجواب: نعم، لهذا نظيرٌ في مواضِعَ كثيرة، منها ما نقرؤه في كل صَلاةٍ: وهي {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}[الفاتحة: ٧] إذ لو قال: (غَيْرِ المَغْضوبِ عليهم