الدِّين والنَّفْسِ، فاعتزلَ القضاءَ، وكُلِّفَ بالعودةِ إليه مرارًا فكان يعودُ إليه ويَعتزِلُه، ثُمَّ اعتزلَه ولم يَقْبَلْ إليه رُجوعًا أبدًا، ونِعِمّا فَعَلَ، فقد تفرَّغَ بذلك لِنَشْر العِلْمِ وخدمةِ الحديثِ النبوي .. وهكذا ينبغي لِلعالِم أنْ يُزيحَ ما يعوقُ نشاطَه وحركتَه في خدمة العِلْمِ وإِنْ كان مَنْصِبًا ذا وَجَاهَةٍ أو مال، وتبلُغُ المُدَّةُ لِولاياتِ الحافظِ ابنِ حَجَرٍ القضاءَ واعتزالِها فيما بين تلك المرَّاتِ عشرين سَنَةً كما ذَكَرَ الحافظُ السَّخاوِيّ. . . وقد ترجمَ الحافِظُ لِنَفْسِهِ في القُضَاةِ في كتابهِ "رَفْعُ الإصْرِ عن قُضَاةِ مِصْر".
مؤلَّفاتُه العِلْمِيَّة:
ابتدأَ الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ في التصنيفِ مُنْذُ وقْتِ الشبابِ، ونستطيعُ بالبحثِ والتأمُّلِ أنْ نُحدِّدَ ذلك بحوالي سَنَةِ ٧٩٦ هـ.
وتدلُّ أوائلُ تصنيفاتهِ على بدايةٍ عملية بارعة في التصنيف، فقد كان من أولِ كتبه كتابُهُ القَيِّمُ "تغليقُ التعليقِ" جَمَعَ فيه الأحاديثَ المُعَلَّقةَ في صحيحِ البخاري، وخرّجها وبيّن الأسانيدَ الموصولةَ التي رُويَتْ بها في شتّى المصادرِ الحديثية، وهو عَمَلٌ عظيم يدل على براعةٍ نادرة واستحضارٍ وسَعَةِ اطلاعٍ بعِيدَيْ المَدَى.
وقد ضَرَبَ في التصنيف مُثُلًا بعيدةً بكَثْرةِ مصنَّفاتهِ وتعدُّدِ فُنونِها وتنوُّعِها، حتى بلغَتْ ما يزيدُ على الخمسين ومئة مُصَنَّفٍ ما بين مَراجعَ ضخمةٍ مِثْلِ فَتْحِ الباري، وتهذيبِ التهذيبِ، ورسالةٍ صغيرةٍ نافعة مِثْلِ مَتْنِ نُخْبَةِ الفِكَرِ، وَشَرْحِهِ "نُزْهَةِ النظَر" الذي طار صيتهُ في الآفاق، وعوَّلَ عليه مَنْ جاء بعدَه.
وامتازَتْ مصنَّفاتهُ بالإتقان والإفادة التي لا توجدُ في غيرِها، وكان كثيرَ المراجَعةِ لها والمراجَعَةِ لِنَفْسِهِ، خِلافًا لِمَا يفعَلهُ بعضُ العصريين من التعالُمِ بالتصميم على الإثم والإصرار على الرأي الشاذّ المُخالِف للسُّنَّة الصحيحة والإجماع، وكان سريعَ الكتابة جدًّا مع حُسْنِ الضَّبْطِ، ولكَوْنه