للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذه أحكامٌ تتعلَّقُ بذلكَ ذُكِرَتْ ههنا لِتَكْمِلَةِ الفائدةِ، فأقولُ:

تُقْبَلُ التزكيةُ مِنْ عارِفٍ بأسبابِها لا مِن غيرِ عارِفٍ، لئَلّا يُزَكّىَ بمجردِ ما ظَهرَ له ابتداءً مِنْ غَيْرِ مُمارَسَةٍ واختبارٍ، ولو كانَتِ التزكيةُ صادِرَةً مِنْ مُزَكٍّ واحدٍ على الأَصحِّ، خِلافًا لِمَنْ شَرَطَ أنَّها لا تُقْبَلُ إلّا مِن اثنَيْنِ إلحاقًا لها بالشهادةِ في الأصحِّ أيضًا. والفَرْقُ بينهما أنَّ التزكيةَ تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الحُكْمِ فلا يُشْتَرَطُ فيها العَددُ، والشهادةُ تَقَعُ مِنَ الشاهِدِ عند الحاكِمِ فافْتَرقَا.

ولو قيلَ: يُفَصَّلُ بينَ ما إذا كانَتِ التزكيةُ في الراوي مُسْتَنِدَةً من المُزَكِّي إلى اجتهادِه، أو إلى النَّقْلِ عن غَيْرِهِ لَكَانَ مُتجهًا، فإنه إنْ كان الأوَّلَ فلا يُشتَرطُ العَددُ أصلًا، لأنه حِيْنئِذٍ يكونُ بِمَنْزِلَةِ الحاكِمِ، وإنْ كانَ الثانيَ فَيَجري فيه الخِلافُ، وتبيَّنَ أنه أيضًا لا يُشتَرطُ العددُ لأنَّ أصلَ النَّقْلِ لا يُشْتَرطُ فيه العددُ فكذا ما تفرَّعَ عنه. واللهُ سبحانَه وتعالى أَعْلَمُ.

وينبغي ألَّا يُقْبَلَ الجَرْحُ والتعديلُ إلا مِنْ عَدْلٍ مُتَيَقِّظِ، فلا يُقْبَلُ جَرْحُ مَنْ أَفْرَطَ فيه فَجَرَحَ بما لا يقتضي رَدَّ حديثِ المُحَدِّثِ، كما لا تُقْبَلُ تزكيةُ مَنْ أَخَذَ بِمُجرَّدِ الظاهرِ فأَطْلَقَ التزكيةَ. وقال الذهبيُّ -وهو مِنْ أهلِ الاستقراءِ التامِّ في نَقْدِ الرِّجالِ-: "لَمْ يَجتمع اثنانِ مِنْ عُلَماءِ هذا الشأنِ قَطُّ على توثيقِ ضعيفٍ ولا على تضعيفِ ثِقَةٍ" انَتهى (١).

وَلهذا كان مذهبُ النَّسائيِّ ألَّا يُتْرَكَ حديثُ الرجُلِ حتى يجتمعَ الجميعُ على تَرْكِه.


= المرتبةُ السادسةُ: ما يدُلُّ على المُبالَغَةِ، كأَكْذَبِ الناسِ، أو إليه المُنتَهى في الكَذِبِ، أو هو رُكْنُ الكَذِبِ أو مَنْبَعُهُ.
وحُكْمُ هذه المراتبِ الأربع الأخيرةِ قال فيه السَّخَاوِيُّ: "إنه لا يُحتَجُّ بواحدٍ من أهلِها ولا يُسْتَشهَدُ به ولا يُعْتَبَرُ به".
(١) المُوْقِظة: ٨٤، ليس فيها "قط"، والمراد نفي اجتماعهم، كما يشير لذلك قول الحافظ بناء عليه: "ولهذا كان مذهب النسائي. . ." وانظر قول الذهبي بعدها: "وإنما يقع اختلافهم في مراتب القوة أو مراتب الضعف". وهذا ينطبق على الأغلبية العظمى لاختلافهم.

<<  <   >  >>