للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَلْيَحْذَرِ المتكلمُ في هذا الفنِّ من التَّسَاهُلِ في الجَرْحِ والتعديلِ فإنَّه إنْ عدّلَ بغَيْرِ تَثَبُّتٍ كانَ كالمُثْبِتِ حُكمًا ليس بثابتٍ، فَيُخْشَى عليه أنْ يدخُلَ في زُمْرَةِ مَن رَوى حديثًا وهو يَظُنُّ أنه كذِبٌ، وإن جَرحَ بغيرِ تحرُّزٍ أَقْدَمَ على الطَّعْنِ في مُسلمٍ بريءٍ من ذلك ووَسَمه بِمِيْسَمِ سُوءٍ يَبقى عليه عارُهُ أبدًا، والآفَةُ تَدْخُلُ في هذا تارَةً من الهَوى والغَرَضِ الفاسِدِ -وكلامُ المُتقَدِّمين سالِمٌ من هذا غالِبًا- وتارَةً مِنَ المُخَالَفَةِ في العقائِدِ وهو موجودٌ كثيرًا قديمًا وحديثًا. ولا ينبغي إطلاقُ الجَرْحِ بذلك، فقد قَدَّمْنَا تحقيقَ الحالِ في العملِ بروايةِ المُبتَدِعَة (١).

والجَرْحُ مُقَدَّمٌ على التعديل، وأَطْلَقَ ذلك جماعةٌ، ولكنْ محلُّهُ إنْ صَدَرَ مُبَيَّنًا (٢) مِنْ عارِفٍ بأسبابهِ، لأنه إنْ كانَ غيرَ مُفَسَّرٍ لم يَقْدَحْ فيمَنْ ثَبَتَتْ عدالَتُه، وإنْ صَدَرَ مِنْ غَيْرِ عارِفٍ بالأسبابِ لم يُعْتَبر به أيضًا.

فإنْ خَلا المجروحُ عن تعديلٍ قُبِلَ الجَرْحُ فيه مُجمَلًا (٣) غيرَ مُبَيَّنِ السببِ إذا صَدَرَ مِنْ عارِفٍ على المُختارِ، لأنه إذا لم يَكُنْ فيه تعديلٌ فهو في حَيِّزِ المجهولِ، وإعمالُ قَوْلِ المُجرِّحِ أَوْلى من إِهمالِه. ومالَ ابنُ الصلاحِ في مِثْلِ هذا إلى التوقُّفِ فيه (٤).


(١) ص ١٠٢ - ١٠٤.
(٢) أي مُبَيَّنَ السَّبَبِ، ويُسَمَّى عِنْدَ المُحَدِّثينَ: الجَرْحَ المُفَسَّرَ.
(٣) الجَرحُ المُجْمَلُ هو غيرُ مُبَيَّن السَّبَبِ، كما شَرَحَه المُصنِّفُ، ويُسَمَّى أيضًا: الجَرْحَ المُبْهَمَ.
(٤) نتيجةُ المذهبَيْن متقارِبةٌ جدًّا، وهي عَدَمُ العملِ بالحديث، لكنْ على مذهبِ ابنِ الصلاحِ لم يُعمَلْ بحديثِ مَنْ جُرِحَ جَرْحًا مُجمَلًا، لأنه وقعَتْ فيه رِيبَةٌ تُوجِبُ التوقُّفَ في العملِ بحديثِه. كالمجهولِ مثلًا، أمّا على مذهبِ المُصنِّفِ الحافظِ ابنِ حَجَرٍ فيُعْتَبَرُ هذا الراوي مَجرُوحًا مرفوضَ الرِّوايةِ. ومذهبُ ابنِ الصلاحِ في رأيي أَقْوى. وانظر ما سَبَقَ من تعليقٍ ص ١٠٢.

<<  <   >  >>