للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والفرق بين المُدَلَّس والمُرْسَلِ الخفي دقيقٌ، حَصَل تحريرُه بما ذُكِرَ هنا: وهو أنَّ التدليسَ يَختصُّ بمن رَوى عمَّنْ عُرِفَ لِقاؤه إياه، فأمَّا إنْ عاصرَه ولم يُعْرَفْ أنه لقيه فهو المُرْسَلُ الخفيُّ. ومَنْ أَدخل في تعريف التدليس المعاصرةَ ولو بغير لُقِيٍّ لَزِمَه دخولُ المُرسَلِ الخفىّ في تعريفه، والصوابُ التفرقةُ بينهما.

ويدلُّ على أنَّ اعتبارَ اللُّقِىِّ في التدليس دونَ المعاصرةِ وحدَها لا بدَّ منه: إطباقُ أهلِ العِلْم بالحديث على أنَّ روايةَ المُخَضْرَمين (١) كأبي عثمان النَّهْدِي (٢)، وقيس بن أبي حازِم (٣)، عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من قَبيل الإرسالِ لا مِنْ قَبيل التدليس، ولو كان مُجرَّدُ المعاصَرَة يُكْتَفى به في التدليس لكان هؤلاءِ مُدَلِّسينَ، لأنهم عاصروا النبىَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَطْعًا، ولكن لم يُعْرَفْ هل لَقُوهُ أمْ لا (٤).

وممَّنْ قال باشتراطِ اللقاء في التدليس الإمامُ الشافعي وأبو بكر البزار، وكلامُ الخطيب في الكفاية يقتضيه وهو المُعْتَمَد.


(١) المُخَضرمون: الذين أدركوا الجاهلية في حياة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأسلموا ولا صُحبةَ لهم.
وسيأتي بحثُهم ص ١١٣.
(٢) هو عبد الرحمن بن مُلِّ بن عمرو، مُخضرَمٌ شَهِد اليرموك والقادسية وغيرهما (ت ٩٥ أو ١٠٠) عن مئة وثلاثين، روى له الستة.
(٣) قيس بن أبي حازم البَجَلي، أبو عبد الله الكوفي، مُخضرم روى عن العشرة المُبشَّرة بالجنة إلا عبد الرحمن بن عوف، ثِقةٌ له أفراد. (ت ٩٨) وقد جاوز المئة. وتغيَّر حِفظُه آخرَ عُمُرهِ، حديثهُ في الستة.
(٤) للقائلين إنّ الحديثَ المُدَلَّس يشمل رواية المعاصر عمَّن عاصره أن يجيبوا عن هذا الاستدلال بأنَّ الإرسالَ في رواية هؤلاء كان بيّنًا وأمرُهم كان واضحًا بعدَم سماعهم من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وهذا هو الذي أختاره وهو فيما يبدو مذهبُ الجمهور كما يدل على ذلك كلامُ الإمام مسلم في مقدمة صحيحه في الحُكم باتصال الحديث بين الراويين المتعاصِرَيْن إذا كان لقاؤهما مُمكِنًا ولم يَثْبُتْ عدمُ السماعِ بينهما. والفرقُ بين المُدلَّس والمُرسَل الخفي على ذلك هو إيهامُ السماعِ في المُدلَّس دون المُرسَل الخفي.

<<  <   >  >>