وقد طارَتْ شُهْرَةُ الفَتْحِ فَوْرَ اكتمالِهِ، وطَلَبَهُ مُلوكُ الأطرافِ والعلماءُ في شتى الأقطار حتى قالوا فيه:"لا هِجرةَ بعدَ الفتحِ".
وقال الحافظُ السَّخَاوِيُّ:"ولو لم يكنْ له إلَّا شرحُ البخاري لَكَانَ كافيًا في عُلُوِّ مِقْدَاره، ولو وَقَفَ عليه ابنُ خلدون القائلُ بأنَّ شَرْحَ البخاري إلى الآن دَينٌ على هذه الأمة لَقَرَّتْ عينُهُ بالوفاء والاستيفاء".
ولم يزَلْ الحافظ ابن حجر على جلالَتهِ في العِلْم وعظمَتهِ في النفوس ومداومَتهِ على أنواع الخيرات إلى أنْ تُوفيَ بعدَ العِشَاء مِنْ ليلةِ السبت الثامنِ والعشرين من ذي الحِجَّة سنة (٨٥٢ هـ) وصُلِّيَتْ عليه صلاةُ الجَنازةِ من الغَدِ في مشهدٍ عظيمٍ لم يَر مَنْ حَضَرَهُ مِثْلَه، وكان ممَّنْ حَمَلَ نَعْشَه السُّلطانُ فَمَنْ دُونَه من الرؤساء والعلماء حتى دُفِنَ بالقَرافة الصغرى في تُربة بني الخَرُّوبي، بين تُربة الشافعيّ ومسلم السلَمِيّ، بالقرب من الإمامِ اللَّيْثِ بن سعد رضي الله عنهم أجمعين.
قال الإمام السيوطي:"وقد غَلِقَ بَعْدَه الباب، وخُتِمَ به هذا الشأنُ".
وقال الحافظ السَّخاوي تلميذهُ: "وخَصائِلُه لم تجتمعْ لأحدٍ من أهل عصره، وقد شَهِدَ له القُدماءُ بالحِفْظِ والمعرفة التامَّةِ، والذِّهْنِ الوقَّادِ، والذكاء المُفْرِط، وسَعَةِ العِلْمِ في فُنُونٍ شتّى، وشَهِدَ له شيخهُ الحافظُ العِراقي بأنّه أعلمُ أصحابه بالحديث، وقال التقيُّ الفاسي والبرهانُ الحلبي: ما رأينا مثله. وسأله الأمير تغري برمش: أرأيت مِثْلَ نَفْسِك؟ فقال: قال اللهُ سبحانه وتعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}.
وقد عُرِفَ الحافظُ ابن حجر بالفضائل النفسيَّةِ، وأثنى الناسُ عَليه لِمزيدِ أدبهِ مع الأئمة المتقدِّمين والمتأخِّرين، بل مع كلِّ مَنْ يجالِسُه مِنْ كبير وصغير، ولِمحبَّته لأهلِ العِلْمِ والفَضْل والتنويه بذكرهم وعدم إطراء نَفْسهِ أو المُباهاةِ بما ينقدِحُ في ذِهنه، مع كَثْرةِ تحقيقاته الفريدةِ التي لا يكادُ يخلو بَحْثٌ من أبحاثه عنها.