ابْنُ بَرِّيٍّ:
تقولُ انْتَصِحْني إِنني لَكَ ناصِحٌ، ... وَمَا أَنا، إِن خَبَّرْتُها، بأَمِينِ
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: هَذَا وَهَمٌ مِنْهُ لأَن انْتَصَحَ بِمَعْنَى قَبِلَ النَّصِيحَةَ لَا يتعدَّى لأَنه مُطَاوِعُ نَصَحْتُهُ فَانْتَصَحَ، كَمَا تَقُولُ رَدَدْتُهُ فارْتَدَّ، وسَدَدْتُه فاسْتَدَّ، ومَدَدْتُه فامْتَدَّ، فأَما انْتَصَحْتُهُ بِمَعْنَى اتَّخَذْتُهُ نَصِيحًا، فَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلى مَفْعُولٍ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ انتصحْني إِنني لَكَ نَاصِحٌ، يَعْنِي اتَّخِذْنِي نَاصِحًا لَكَ؛ ومنه قولهم: لا أُ ريد مِنْكَ نُصْحاً وَلَا انْتِصَاحًا أَي لَا أُريد مِنْكَ أَن تَنْصَحَنِي وَلَا أَن تَتَّخِذَنِي نَصِيحًا، فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ النُّصْح وَالِانْتِصَاحِ. والنُّصْحُ: مَصْدَرُ نَصَحْتُه. والانتصاحُ: مَصْدَرُ انْتَصَحْته أَي اتَّخَذْتُهُ نَصِيحًا، وَمَصْدَرُ انْتَصَحْتُ أَيضاً أَي قَبِلْتُ النَّصِيحَةَ، فَقَدْ صَارَ لِلِانْتِصَاحِ مَعْنَيَانِ. وَفِي الْحَدِيثِ:
إِن الدِّينَ النصيحةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ ولأَئمة الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ
؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: النَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةٍ هِيَ إِرادة الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ، فَلَيْسَ يُمْكِنُ أَن يُعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تَجْمَعُ مَعْنَاهَا غَيْرُهَا. وأَصل النُّصْحِ: الْخُلُوصُ. وَمَعْنَى النصيحة لله: صِحَّةُ الِاعْتِقَادِ فِي وَحْدَانِيَّتِهِ وإِخلاص النِّيَّةِ فِي عِبَادَتِهِ. وَالنَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللَّهِ: هُوَ التَّصْدِيقُ بِهِ وَالْعَمَلُ بِمَا فِيهِ. وَنَصِيحَةُ رَسُولِهِ: التَّصْدِيقُ بِنُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ وَالِانْقِيَادُ لِمَا أَمر بِهِ وَنُهِيَ عَنْهُ. وَنَصِيحَةُ الأَئمة: أَن يُطِيعَهُمْ فِي الْحَقِّ وَلَا يَرَى الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ إِذا جَارُوا. وَنَصِيحَةُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ: إِرشادهم إِلى الْمَصَالِحِ؛ وَفِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ نظرٌ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ نَصِيحَةُ الأَئمة أَن يُطِيعَهُمْ فِي الْحَقِّ وَلَا يَرَى الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ إِذا جَارُوا، فأَيّ فَائِدَةٍ فِي تَقْيِيدِ لَفْظِهِ بِقَوْلِهِ يُطِيعُهُمْ فِي الْحَقِّ مَعَ إِطلاق قَوْلِهِ وَلَا يَرَى الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ إِذا جَارُوا؟ وإِذا مَنَعَهُ الْخُرُوجُ إِذا جَارُوا لَزِمَ أَن يُطِيعَهُمْ فِي غَيْرِ الْحَقِّ. وتَنَصَّح أَي تَشَبَّه بالنُّصَحاء. واسْتَنْصَحه: عَدَّه نَصِيحًا. وَرَجُلٌ ناصحُ الجَيْب: نَقِيُّ الصَّدْرِ نَاصِحُ الْقَلْبِ لَا غِشَّ فِيهِ، كَقَوْلِهِمْ طَاهِرُ الثَّوْبِ، وَكُلُّهُ عَلَى الْمَثَلِ؛ قَالَ النَّابِغَةُ:
أَبْلِغِ الحرثَ بنَ هِنْدٍ بأَني ... ناصِحُ الجَيْبِ، بازِلٌ للثوابِ
وقومٌ نُصَّح ونُصَّاحٌ. والتَّنَصُّح: كَثْرَةُ النُّصْحِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ: إِياكم وكثرةَ التَّنَصُّح فإِنه يُورِثُ التُّهَمَة. وَالتَّوْبَةُ النَّصُوح: الْخَالِصَةُ، وَقِيلَ: هِيَ أَن لَا يَرْجِعَ الْعَبْدُ إِلى مَا تَابَ عَنْهُ؛ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: تَوْبَةً نَصُوحاً
؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: قرأَ أَهل الْمَدِينَةِ نَصُوحاً، بِفَتْحِ النُّونِ، وَذَكَرَ عَنْ عَاصِمٍ نُصُوحاً، بِضَمِّ النُّونِ؛ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كأَنّ الَّذِينَ قرأُوا نُصُوحاً أَرادوا الْمَصْدَرَ مِثْلَ القُعود، وَالَّذِينَ قرأُوا نَصُوحاً جَعَلُوهُ مِنْ صِفَةِ التَّوْبَةِ؛ وَالْمَعْنَى أَن يُحَدّث نَفْسَهُ إِذا تَابَ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ أَن لَا يَعُودُ إِليه أَبداً، وَفِي حَدِيثِ
أُبيّ: سأَلت النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ فَقَالَ: هِيَ الْخَالِصَةُ الَّتِي لَا يُعاوَدُ بَعْدَهَا الذنبُ
؛ وفَعُول مِنْ أَبنية الْمُبَالَغَةِ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ والأُنثى، فكأَنَّ الإِنسانَ بَالَغَ فِي نُصْحِ نَفْسِهِ بِهَا، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ النُّصْح وَالنَّصِيحَةِ. وَسُئِلَ أَبو عَمْرٍو عَنْ نُصُوحاً فَقَالَ: لَا أَعرفه؛ قَالَ الْفَرَّاءُ وَقَالَ المفضَّل: بَاتَ عَزُوباً وعُزُوباً وعَرُوساً وعُرُوساً؛ وقال أَبو إِسحاق: توبةٌ نَصُوح بَالِغَةٌ فِي النُّصْح، وَمَنْ قرأَ نُصُوحاً فَمَعْنَاهُ يَنْصَحُون فِيهَا نُصوحاً. وَقَالَ أَبو زَيْدٍ: نَصَحْتُه أَي صَدَقْتُه؛
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute