وامْدَحْ سَراةَ بَني فُقَيْمٍ، إِنَّهُمْ ... قَتَلُوا أَباكَ، وثَأْرُهُ لَمْ يُقْتَلِ
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: هُوَ يُخَاطِبُ بِهَذَا الشِّعْرِ الْفَرَزْدَقَ، وَذَلِكَ أَن رَكْبًا مِنْ فُقَيْمٍ خَرَجُوا يُرِيدُونَ الْبَصْرَةَ وَفِيهِمُ امرأَة مِنْ بَنِي يَرْبُوعَ بْنِ حَنْظَلَةَ مَعَهَا صَبِيٌّ مِنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي فُقَيْمٍ، فَمَرُّوا بِخَابِيَةٍ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَعَلَيْهَا أَمة تَحْفَظُهَا، فأَشرعوا فِيهَا إِبلهم فَنَهَتْهُمُ الأَمة فَضَرَبُوهَا وَاسْتَقَوْا فِي أَسقيتهم، فَجَاءَتِ الأَمة أَهلها فأَخبرتهم، فَرَكِبَ الْفَرَزْدَقُ فَرَسًا لَهُ وأَخذ رُمْحًا فأَدرك الْقَوْمَ فَشَقَّ أَسقيتهم، فَلَمَّا قَدِمَتِ المرأَة الْبَصْرَةَ أَراد قَوْمُهَا أَن يثأَروا لَهَا فأَمرتهم أَن لَا يَفْعَلُوا، وَكَانَ لَهَا وَلَدٌ يُقَالُ لَهُ ذَكْوَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ بْنِ فُقَيْمٍ، فَلَمَّا شَبَّ راضَ الإِبل بِالْبَصْرَةِ فَخَرَجَ يَوْمَ عِيدٍ فَرَكِبَ نَاقَةً لَهُ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَمٍّ لَهُ: مَا أَحسن هَيْئَتَكَ يَا ذَكْوَانُ لَوْ كُنْتَ أَدركت مَا صُنع بأُمّك. فَاسْتَنْجَدَ ذَكْوَانُ ابْنَ عَمٍّ لَهُ فَخَرَجَ حَتَّى أَتيا غَالِبًا أَبا الْفَرَزْدَقِ بالحَزْنِ مُتَنَكِّرِينَ يَطْلُبَانِ لَهُ غِرَّةً، فَلَمْ يَقْدِرَا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تحمَّل غَالِبٌ إِلى كَاظِمَةَ، فَعَرَضَ لَهُ ذَكْوَانُ وَابْنُ عَمِّهِ فَقَالَا: هَلْ مِنْ بَعِيرٍ يُبَاعُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَكَانَ مَعَهُ بَعِيرٌ عَلَيْهِ مَعَالِيقُ كَثِيرَةٌ فَعَرَضَهُ عَلَيْهِمَا فَقَالَا: حُطَّ لَنَا حَتَّى نَنْظُرَ إِليه، فَفَعَلَ غَالِبٌ ذَلِكَ وَتَخَلَّفَ مَعَهُ الْفَرَزْدَقُ وأَعوان لَهُ، فَلَمَّا حَطَّ عَنِ الْبَعِيرِ نَظَرَا إِليه وَقَالَا لَهُ: لَا يُعْجِبُنَا، فَتَخَلَّفَ الْفَرَزْدَقُ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى الْبَعِيرِ يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ وَلَحِقَ ذَكْوَانُ وَابْنُ عَمِّهِ غَالِبًا، وَهُوَ عَدِيلُ أُم الْفَرَزْدَقِ، عَلَى بَعِيرٍ فِي مَحْمَلٍ فَعُقِرَ الْبَعِيرُ فَخَرَّ غَالِبٌ وامرأَته ثُمَّ شَدَّا عَلَى بَعِيرِ جِعْثِنَ أُخت الْفَرَزْدَقِ فَعَقَرَاهُ ثُمَّ هَرَبَا، فَذَكَرُوا أَن غَالِبًا لَمْ يَزَلْ وجِعاً مِنْ تِلْكَ السَّقْطَةِ حَتَّى مَاتَ بِكَاظِمَةَ. والمثْؤُور بِهِ: المقتولُ. وَتَقُولُ: يَا ثاراتِ فُلَانٍ أَي يَا قَتَلَةَ فُلَانٍ. وَفِي الْحَدِيثِ:
يَا ثاراتِ عُثْمَانَ
أَي يَا أَهل ثَارَاتِهِ، وَيَا أَيها الطَّالِبُونَ بِدَمِهِ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ وأَقام الْمُضَافَ إِليه مَقَامَهُ؛ وَقَالَ حَسَّانُ:
لَتَسْمَعَنَّ وَشِيكاً فِي دِيارِهِمُ: ... اللهُ أَكْبَرُ، يَا ثاراتِ عُثْمانا
الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ يَا ثَارَاتِ فُلَانٍ أَي يَا قَتَلَتَهُ، فَعَلَى الأَوّل يَكُونُ قَدْ نَادَى طَالِبِي الثأْر لِيُعِينُوهُ عَلَى اسْتِيفَائِهِ وأَخذه، وَالثَّانِي يَكُونُ قَدْ نَادَى الْقَتَلَةَ تَعْرِيفًا لَهُمْ وَتَقْرِيعًا وَتَفْظِيعًا للأَمر عَلَيْهِمْ حَتَّى يَجْمَعَ لَهُمْ عِنْدَ أَخذ الثَّأْرِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَبَيْنَ تَعْرِيفِ الجُرْمِ؛ وتسميتُه وقَرْعُ أَسماعهم بِهِ ليَصْدَعَ قُلُوبَهُمْ فَيَكُونَ أَنْكَأَ فِيهِمْ وأَشفى لِلنَّاسِ. وَيُقَالُ: اثَّأَرَ فُلَانٌ مِنْ فُلَانٍ إِذا أَدرك ثَأْرَه، وَكَذَلِكَ إِذا قَتَلَ قَاتِلَ وليِّه؛ وَقَالَ لَبِيدٌ:
والنِّيبُ إِنْ تَعْرُ مِنّي رِمَّةً خَلَقاً، ... بَعْدَ الْمَماتِ، فإِنّي كُنْتُ أَثَّئِرُ
أَي كُنْتُ أَنحرها لِلضِّيفَانِ، فَقَدْ أَدركت مِنْهَا ثَأْري فِي حَيَاتِي مُجَازَاةً لتَقَضُّمِها عِظَامِيَ النَّخِرَةَ بَعْدَ مَمَاتِي، وَذَلِكَ أَن الإِبل إِذا لَمْ تَجِدْ حَمْضاً ارْتَمَّتْ عِظَامَ الموتَى وعِظامَ الإِبل تُحْمِضُ بِهَا. وَفِي حَدِيثِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَوْمَ الشُّورَى: لَا تَغْمِدُوا سُيُوفَكُمْ عَنْ أَعدائكم فَتُوتِروا ثأْرَكُمْ
؛ الثَّأْرُ هَاهُنَا: الْعَدُوُّ لأَنه مَوْضِعُ الثأْر، أَراد أَنَّكُمْ تُمَكِّنُونَ عَدُوَّكُمْ مِنْ أَخذ وَتْرِهِ عِنْدَكُمْ. يُقَالُ: وَتَرْتُه إِذا أَصبته بِوَترٍ، وأَوْتَرْتُه إِذا أَوْجَدْتَهُ وَتْرَهُ وَمَكَّنْتَهُ مِنْهُ. واثَّأَر: كَانَ الأَصل فِيهِ اثْتَأَرَ فأُدغمت فِي الثَّاءِ وَشُدِّدَتْ، وَهُوَ افْتِعَالٌ «٤» مِنْ ثأَرَ. والثَّأْرُ المُنِيمُ: الَّذِي يَكُونُ كُفُؤاً لِدَمِ وَلِيِّكَ.
(٤). قوله: [وهو افتعال إِلخ] أَي مصدر اثتأَر الاثتئار افتعال من ثأَر
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute