فَلَمَّا قَدِمَ زَيْدٌ عَلَى أَهله قَالَتْ لَهُ ابْنَتُهُ: أَين خَمْسُ الْمِائَةِ؟ فَقَالَ:
إِنَّ أَباكِ فَرَّ يَوْمَ صِفِّينْ، ... لَمَّا رأَى عَكّاً والأشعَرِيين،
وقَيْسَ عَيْلانَ الهَوازِنيين، ... وابنَ نُمَيرٍ فِي سراةِ الكِنْدِين،
وَذَا الكَلاعِ سَيِّدَ الْيَمَانِينْ، ... وَحَابِسًا يَسْتَنُّ فِي الطَّائِيِينْ،
قالَ لِنَفْسِ السُّوءِ: هَلْ تَفِرِّين؟ ... لَا خَمْسَ إِلا جَنْدَلُ الإِحَرِّين،
والخَمْسُ قَدْ جَشَّمْنَكِ الأَمَرِّين، ... جَمْزاً إِلى الكُوفةِ مِنْ قِنِّسْرِينْ
وَيُرْوَى: قَدْ تُجْشِمُكِ وَقَدْ يُجْشِمْنَكِ. وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: مَعْنَى لَا خَمْسَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ صِفِّينَ
أَن مُعَاوِيَةَ زَادَ أَصحابه يَوْمَ صِفِّينَ خَمْسَمِائَةٍ فَلَمَّا التَقَوْا بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ أَصحاب عَلِيٍّ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ:
لَا خَمْسَ إِلا جَنْدَلُ الإِحرِّين
أَرادوا: لَا خَمْسَمِائَةٍ؛ وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ أَن حَبَّةَ العُرَنيَّ قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ عَلِيٍّ يَوْمَ الجَمَلِ فَقَسَّمَ مَا فِي الْعَسْكَرِ بَيْنَنَا فأَصاب كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا خَمْسَمِائَةِ خَمْسَمِائَةٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَوْمَ صِفِّينَ الأَبيات. قَالَ ابْنُ الأَثير: وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ لَا خِمس، بِكَسْرِ الْخَاءِ، مِنْ وِردِ الإِبل. قَالَ: وَالْفَتْحُ أَشبه بِالْحَدِيثِ، وَمَعْنَاهُ لَيْسَ لَكَ الْيَوْمَ إِلا الْحِجَارَةُ وَالْخَيْبَةُ، والإِحَرِّينَ: جَمْعُ الحَرَّةِ. قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: إِن قَالَ قَائِلٌ مَا بَالُهُمْ قَالُوا فِي جَمْعِ حَرَّةٍ وإِحَرَّةَ حَرُّونَ وإِحَرُّون، وإِنما يُفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْمَحْذُوفِ نَحْوُ ظُبَةٍ وثُبة، وَلَيْسَتْ حَرَّة وَلَا إِحَرَّة مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ أُصوله، وَلَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ أَرض فِي أَنه مُؤَنَّثٌ بِغَيْرِ هَاءٍ؟ فَالْجَوَابُ: إِنَّ الْأَصْلَ فِي إِحَرَّة إِحْرَرَةٌ، وَهِيَ إِفْعَلَة، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَرِهُوا اجْتِمَاعَ حَرْفَيْنِ مُتَحَرِّكَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فأَسكنوا الأَوَّل مِنْهُمَا وَنَقَلُوا حَرَكَتَهُ إِلى مَا قَبْلَهُ وأَدغموه فِي الَّذِي بَعْدَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى الْكَلِمَةِ هَذَا الإِعلال وَالتَّوْهِينُ، عَوَّضُوهَا مِنْهُ أَن جَمَعُوهَا بِالْوَاوِ وَالنُّونِ فَقَالُوا: إِحَرُّونَ، وَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي إِحَرَّة أَجروا عَلَيْهَا حَرَّة، فَقَالُوا: حَرُّونَ، وإِن لَمْ يَكُنْ لَحِقَهَا تَغْيِيرٌ وَلَا حَذْفٌ لأَنها أُخت إِحَرَّة مِنْ لَفْظِهَا وَمَعْنَاهَا، وإِن شِئْتَ قُلْتَ: إِنهم قَدْ أَدغموا عَيْنَ حَرَّة فِي لَامِهَا، وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ الإِعلال لَحِقَهَا؛ وَقَالَ ثَعْلَبٌ: إِنما هُوَ الأَحَرِّينَ، قَالَ: جَاءَ بِهِ عَلَى أَحَرَّ كأَنه أَراد هَذَا الْمَوْضِعَ الأَحَرَّ أَي الَّذِي هُوَ أَحَرُّ مِنْ غَيْرِهِ فَصَيَّرَهُ كالأَكرمين والأَرحمين. والحَرَّةُ: أَرض بِظَاهِرِ الْمَدِينَةِ بِهَا حِجَارَةٌ سُودٌ كَبِيرَةٌ كَانَتْ بِهَا وَقْعَةٌ. وَفِي حَدِيثِ
جَابِرٍ: فَكَانَتْ زِيَادَةُ رسولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعِي لَا تُفَارِقُنِي حَتَّى ذهبتْ مِنِّي يَوْمَ الحَرَّةِ
؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: قَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ الْحَرَّةِ وَيَوْمِهَا فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي الإِسلام أَيام يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، لَمَّا انْتَهَبَ الْمَدِينَةَ عَسْكَرُهُ مِنْ أَهل الشَّامِ الَّذِينَ نَدَبَهُمْ لِقِتَالِ أَهل الْمَدِينَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وأَمَّر عَلَيْهِمْ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ الْمُرِّيَّ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَعَقِيبَهَا هَلَكَ يَزِيدُ. وَفِي التَّهْذِيبِ: الحَرَّة أَرض ذَاتُ حِجَارَةٍ سُودٍ نَخِرَةٌ كأَنما أُحرقت بِالنَّارِ. وَقَالَ ابْنُ شُمَيْلٍ: الحَرَّة الأَرض مَسِيرَةَ لَيْلَتَيْنِ سَرِيعَتَيْنِ أَو ثَلَاثٍ فِيهَا حِجَارَةٌ أَمثال الإِبل البُروك كأَنما شُيِّطَتْ بِالنَّارِ، وَمَا تَحْتَهَا أَرض غَلِيظَةٌ مِنْ قَاعٍ لَيْسَ بأَسود، وإِنما سوَّدها كَثْرَةُ حِجَارَتِهَا وَتَدَانِيهَا. وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: الْحَرَّةُ الرَّجْلَاءُ الصُّلْبَةُ الشَّدِيدَةُ؛ وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ الَّتِي أَعلاها سُودٌ وأَسفلها بِيضٌ. وَقَالَ أَبو عَمْرٍو: تَكُونُ الْحَرَّةُ مُسْتَدِيرَةً فإِذا كَانَ مِنْهَا شَيْءٌ مُسْتَطِيلًا لَيْسَ بِوَاسِعٍ فَذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute