للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وعِلْمُ الشَّهادةِ عِنْدَ كَوْنِهم يُوافقُ علْمَ الْغَيْبِ، والحجةُ تَلْزَمهُم بِالَّذِي يَعْمَلُونَ، وَهُوَ غيرُ مُخالف لِمَا عَلِمَه اللهُ مِنْهُمْ قَبْلَ كَوْنِهم. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَطَرْتُ الْمَالَ وطَيَّرْتُه بينَ القومِ فطارَ لكلٍّ مِنْهُمْ سَهْمُه أَي صارَ لَهُ وَخَرَجَ لَدَيْه سَهْمُه؛ وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ يذكرُ ميراثَ أَخيه بَيْنَ ورَثَتِه وحِيازةَ كُلِّ ذِي سهمٍ مِنْهُ سَهْمَه:

تَطيرُ عَدائِد الأَشْراكِ شَفْعاً ... ووَتْراً، والزَّعامةُ لِلْغُلام

والأَشْرَاكُ: الأَنْصباءُ، واحدُها شِرْكٌ. وَقَوْلُهُ شَفْعًا وَوَتْرًا أَي قُسِم لَهُمْ لِلذَّكَرِ مثلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، وخَلَصَت الرِّياسةُ والسِّلاحُ لِلذُّكُورِ مِنْ أَولاده. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قِصَّةِ ثَمُودَ وتَشاؤُمهم بِنَبِيّهم الْمَبْعُوثِ إِليهم صالحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ، قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ

؛ مَعْنَاهُ مَا أَصابَكم مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ فَمِنَ اللَّهِ، وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِمْ اطَّيَّرْنا تَشَاءَمْنا، وَهُوَ فِي الأَصل تَطَيَّرنا، فأَجابَهم اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: طائِرُكُمْ مَعَكُمْ

؛ أَي شُؤْمُكم معَكم، وَهُوَ كُفْرُهم، وَقِيلَ للشُؤْم طائرٌ وطَيْرٌ وطِيَرَة لأَن الْعَرَبَ كَانَ مِنْ شأْنها عِيافةُ الطَّيْرِ وزَجْرُها، والتَّطَيُّرُ بِبَارِحها ونَعِيقِ غُرابِها وأَخْذِها ذَاتَ اليَسارِ إِذا أَثارُوها، فَسَمَّوُا الشُّؤْمَ طَيْراً وَطَائِرًا وطِيرَةً لتشَاؤُمهم بِهَا، ثُمَّ أَعْلَم اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَى لِسَانِ

رَسُولِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن طِيَرَتَهم بِهَا باطِلَةٌ. وَقَالَ: لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هامةَ

؛ وَكَانَ

النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَتفاءَلُ وَلَا يَتَطَيَّرُ

، وأَصْلُ الفَأْلِ الكلمةُ الحسَنةُ يَسْمعُها عَلِيلٌ فَيَتأَوَّلُ مِنْهَا مَا يَدُلّ عَلَى بُرْئِه كأَن سَمِع مُنَادِيًا نَادَى رَجُلًا اسْمُهُ سَالِمٌ، وَهُوَ عَليل، فأَوْهَمَه سلامَتَه مِنْ عِلّته، وَكَذَلِكَ المُضِلّ يَسْمع رَجُلًا يَقُولُ يَا واجدُ فيَجِدُ ضَالَّتَهُ؛ والطِّيَرَةُ مُضادّةٌ للفَأْلِ، وَكَانَتِ العربُ مَذهبُها فِي الفَأْلِ والطِّيَرَةِ واحدٌ فأَثبت النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الفَأْلَ واسْتَحْسَنه وأَبْطَلَ الطِّيَرَةَ ونَهَى عَنْهَا. والطِّيَرَةُ مِنِ اطَّيَّرْت وتطَيَّرت، وَمِثْلُ الطِّيَرة الخِيَرَةُ. الْجَوْهَرِيُّ تطَيَّرْت مِنَ الشَّيْءِ وَبِالشَّيْءِ، وَالِاسْمُ مِنْهُ الطِّيَرَةُ، بِكَسْرِ الطَّاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، مِثَالُ العِنَبةِ، وَقَدْ تُسَكَّنُ الياءُ، وَهُوَ مَا يُتَشاءمُ بِهِ مِنَ الفَأْل الردِيء. وَفِي الْحَدِيثِ:

أَنه كَانَ يُحِبُّ الفأْلَ ويَكْرَهُ الطِّيَرَةَ

؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وَهُوَ مصدرُ تطَيَّر طِيَرَةً وتخَيَّر خِيَرَةً، قَالَ: وَلَمْ يَجِئْ مِنَ الْمَصَادِرِ هَكَذَا غَيْرُهُمَا، قَالَ: وأَصله فِيمَا يُقَالُ التطَيُّرُ بِالسَّوَانِحِ والبوارِح مِنَ الظبَاءِ والطَّيْرِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ ذَلِكَ يَصُدُّهم عَنْ مقاصِدِهم فنَفاه الشرْعُ وأَبْطَلَه وَنَهَى عَنْهُ وأَخْبَر أَنه لَيْسَ لَهُ تأْثيرٌ فِي جَلْب نَفْع وَلَا دَفْع ضَرَرٍ؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ:

ثَلَاثَةٌ لَا يَسْلَم مِنْهَا أَحَدٌ: الطِّيَرَةُ والحَسَدُ: والظنُّ، قِيلَ: فَمَا نصْنعُ؟ قَالَ: إِذا تَطَيَّرْتَ فامْضِ، وإِذا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ، وإِذا ظَنَنْتَ فَلَا تُصَحِّحْ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ

؛ أَصله تَطَيّرنا فأُدْغمَتِ التَّاءُ فِي الطَّاءِ واجْتُلِبَت الأَلفُ لِيصحَّ الابتداءُ بِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ:

الطِّيَرَةُ شِرْكٌ وَمَا مِنّا إِلَّا ... وَلَكِنَّ اللهَ يُذْهِبُه بالتَّوَكُّل

؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: هَكَذَا جَاءَ الْحَدِيثُ مَقْطُوعًا وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُسْتَثْنَى أَي إِلا قَدْ يَعْتَرِيه التَّطيُّرُ ويَسْبِقُ إِلى قَلْبه الكراهةُ، فَحُذِفَ اخْتِصَارًا وَاعْتِمَادًا عَلَى فَهْمِ السَّامِعِ؛ وَهَذَا كَحَدِيثِهِ الْآخَرِ:

مَا فِينَا إِلا مَنْ هَمَّ أَوْ لَمَّ إِلا يَحْيَى بْنَ زكَرِيّا

، فأَظْهَر الْمُسْتَثْنَى، وَقِيلَ: إِن قولَه

وَمَا مِنَّا إِلا

مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَدْرَجَه فِي الْحَدِيثِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>