قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: سأَلت ابْنَ الأَعرابي عَنْ قَوْلِهِ:
لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ
، فَقَالَ: النَّارُ هَاهُنَا الرَّأْيُ، أَي لَا تُشاورُوهم، فَجَعَلَ الرأْي مَثَلًا للضَّوءِ عِنْدَ الحَيْرَة، قَالَ: وأَما حَدِيثُهُ الْآخَرُ
أَنا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ، فَقِيلَ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ثُمَّ قَالَ: لَا تَراءَى ناراهُما.
قَالَ: إِنه كَرِهَ النُّزُولَ فِي جِوَارِ الْمُشْرِكِينَ لأَنه لَا عَهْدَ لَهُمْ وَلَا أَمان، ثُمَّ وَكَّدَهُ فَقَالَ: لَا تَراءَى نَارَاهُمَا أَي لَا يَنْزِلُ الْمُسْلِمُ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي تُقَابِلُ نارُه إِذا أَوقدها نارَ مُشْرِكٍ لِقُرْبِ مَنْزِلِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَلَكِنَّهُ يَنْزِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ
فَإِنَّهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ.
قَالَ ابْنُ الأَثير: لَا تراءَى نَارَاهُمَا أَي لَا يَجْتَمِعَانِ بِحَيْثُ تَكُونُ نَارُ أَحدهما تُقَابِلُ نَارَ الْآخَرِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ سِمَةِ الإِبل بِالنَّارِ. وَفِي صِفَةِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَنْوَرُ المُتَجَرَّدِ
أَي نَيِّر الْجِسْمِ. يُقَالُ للحسَنِ المشرِق اللَّوْنِ: أَنْوَرُ، وَهُوَ أَفعلُ مِنَ النُّور. يُقَالُ: نَارٌ فَهُوَ نَيِّر، وأَنار فَهُوَ مُنِيرٌ. وَالنَّارُ: مَعْرُوفَةُ أُنثى، وَهِيَ مِنَ الْوَاوِ لأَن تَصْغِيرَهَا نُوَيْرَةٌ. وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها
؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: جاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَن مَنْ فِي النَّارِ هُنَا نُور اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ حَوْلَهَا قِيلَ الْمَلَائِكَةُ وَقِيلَ نُورُ اللَّهِ أَيضاً. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَقَدْ تُذَكَّرُ النَّارُ؛ عَنْ أَبي حَنِيفَةَ؛ وأَنشد فِي ذَلِكَ:
فَمَنْ يأْتِنا يُلْمِمْ بِنَا فِي دِيارِنا، ... يَجِدْ أَثَراً دَعْساً وَنَارًا تأَجَّجا
وَرِوَايَةُ سِيبَوَيْهِ: يَجِدُ حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تأَججا؛ وَالْجَمْعَ أَنْوُرٌ «٣» ونِيرانٌ، انْقَلَبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، ونِيْرَةٌ ونُورٌ ونِيارٌ؛ الأَخيرة عَنْ أَبي حَنِيفَةَ. وَفِي حَدِيثِ شَجَرِ جَهَنَّمَ:
فَتَعْلُوهم نارُ الأَنْيارِ
؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: لَمْ أَجده مَشْرُوحًا وَلَكِنْ هَكَذَا رُوِيَ فَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ فَيَحْتَمِلُ أَن يَكُونَ مَعْنَاهُ نارُ النِّيرانِ بِجْمَعِ النَّارِ عَلَى أَنْيارٍ، وأَصلها أَنْوارٌ لأَنها مِنَ الْوَاوِ كَمَا جَاءَ فِي رِيحٍ وَعِيدٍ أَرْياحٌ وأَعْيادٌ، وَهُمَا مِنَ الْوَاوِ. وتَنَوَّرَ النارَ: نَظَرَ إِليها أَو أَتاها. وتَنَوَّرَ الرجلَ: نَظَرَ إِليه عِنْدَ النَّارِ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُ. وتَنَوَّرْتُ النارَ مِنْ بَعِيدٍ أَي تَبَصَّرْتُها. وَفِي الْحَدِيثِ:
الناسُ شُركاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: الماءُ والكلأُ والنارُ
؛ أَراد لَيْسَ لِصَاحِبِ النَّارِ أَن يَمْنَعَ مَنْ أَراد أَن يستضيءَ مِنْهَا أَو يَقْتَبِسَ، وَقِيلَ: أَراد بِالنَّارِ الحجارةَ الَّتِي تُورِي النَّارَ، أَي لَا يُمْنَعُ أَحد أَن يأْخذ مِنْهَا. وَفِي حَدِيثِ الإِزار:
وَمَا كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ فِي النَّارِ
؛ مَعْنَاهُ أَن مَا دُونَ الْكَعْبَيْنِ مِنْ قَدَمِ صَاحِبِ الإِزارِ المُسْبَلِ فِي النَّارِ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى فِعْلِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَن صَنِيعَهُ ذَلِكَ وفِعْلَه فِي النَّارِ أَي أَنه مَعْدُودٌ مَحْسُوبٌ مِنْ أَفعال أَهل النَّارُ. وَفِي الْحَدِيثِ:
أَنه قَالَ لعَشَرَةِ أَنْفُسٍ فِيهِمْ سَمُرَةُ: آخِرُكُمْ يَمُوتُ فِي النَّارِ
؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: فَكَانَ لَا يكادُ يَدْفَأُ فأَمر بِقِدْرٍ عَظِيمَةٍ فَمُلِئَتْ مَاءً وأَوقد تَحْتَهَا وَاتَّخَذَ فَوْقَهَا مَجْلِسًا، وَكَانَ يَصْعَدُ بُخَارُهَا فَيُدْفِئُه، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ خُسِفَتْ بِهِ فَحَصَلَ فِي النَّارِ، قَالَ: فَذَلِكَ الَّذِي قَالَ لَهُ، وَاللَّهُ أَعلم. وَفِي حَدِيثِ
أَبي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: العَجْماءُ جُبارٌ وَالنَّارُ جُبارٌ
؛ قِيلَ: هِيَ النَّارُ الَّتِي يُوقِدُها الرجلُ فِي مِلْكِهِ فَتُطِيرها الرِّيحُ إِلى مَالِ غَيْرِهِ فَيَحْتَرِقُ وَلَا يَمْلِكُ رَدَّها فَيَكُونُ هَدَراً. قَالَ ابْنُ الأَثير: وَقِيلَ الْحَدِيثُ غَلِطَ فِيهِ عبدُ الرَّزَّاقِ وَقَدْ تَابَعَهُ عبدُ الْمَلِكِ الصَّنْعانِيُّ، وَقِيلَ: هُوَ تَصْحِيفُ الْبِئْرُ، فإِن أَهل الْيَمَنِ يُمِيلُونَ النَّارَ فَتَنْكَسِرُ النُّونُ، فَسَمِعَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الإِمالة فكتبه بالياء، فَقَرؤُوه
(٣). قوله [والجمع أنور] كذا بالأصل. وفي القاموس: والجمع أنوار. وقوله ونيرة كذا بالأَصل بهذا الضبط وصوبه شارح القاموس عن قوله ونيرة كقردة.