للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

رُفِعَتْ هَذِهِ الأَحرفُ بالأَفاعيل الَّتِي بَعْدَهَا، وأَما قَوْلُهُ: مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ

؛ فَإِنَّكَ أَضمرت كَانَ بَعْدَ وَلَكِنْ فَنُصِبَتْ بِهَا، وَلَوْ رَفَعْتَهُ عَلَى أَن تُضْمِرَ هُوَ فَتُرِيدُ وَلَكِنْ هُوَ رسولُ اللَّهِ كَانَ صُوَابًا؛ وَمِثْلُهُ: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ

، وتصديقَ، فَإِذَا أُلقِيَت مِنْ لَكِنِ الواوُ الَّتِي فِي أَولها آثَرَتِ الْعَرَبُ تَخْفِيفَ نُونِهَا، وَإِذَا أَدخلوا الْوَاوَ آثَرُوا تَشْدِيدَهَا، وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لأَنها رُجُوعٌ عَمَّا أَصابَ أَول الْكَلَامِ، فَشُبِّهَتْ بِبَلْ إِذْ كَانَتْ رُجُوعًا مِثْلَهَا، أَلا تَرَى أَنك تَقُولُ لَمْ يَقُمْ أَخوك بَلْ أَبوك، ثُمَّ تَقُولُ لَمْ يَقُمْ أَخوك لَكِنْ أَبوك فَتَرَاهُمَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْوَاوُ لَا تَصْلُحُ فِي بَلْ، فَإِذَا قَالُوا وَلَكِنْ فأَدخلوا الْوَاوَ تَبَاعَدَتْ مِنْ بَلْ إِذْ لَمْ تَصْلُحْ فِي بَلِ الْوَاوُ، فَآثَرُوا فِيهَا تَشْدِيدَ النُّونِ، وَجَعَلُوا الْوَاوَ كأَنها دَخَلَتْ لِعَطْفٍ لَا بِمَعْنَى بَلْ، وَإِنَّمَا نَصَبَتِ الْعَرَبُ بِهَا إِذَا شُدِّدَتْ نُونُهَا لأَن أَصلها إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَائِمٌ، زِيدَتْ عَلَى إنَّ لَامٌ وَكَافٌ فَصَارَتَا جَمِيعًا حَرْفًا وَاحِدًا؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: بَعْضُ النَّحَوِييِّنَ يَقُولُ أَصله إِنَّ وَاللَّامُ وَالْكَافُ زَوَائِدُ، قَالَ: يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَن الْعَرَبَ تُدْخِلُ اللَّامَ فِي خَبَرِهَا؛ وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:

ولَكِنَّني مِنْ حُبِّها لَعَمِيدُ

فَلَمْ يُدْخِلِ اللَّامَ إِلَّا أَن مَعْنَاهَا إنَّ، وَلَا تَجُوزُ الإِمالة فِي لَكِنْ وَصُورَةُ اللَّفْظِ بها لاكنّ، وَكُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ بِغَيْرِ أَلف وأَلفها غَيْرُ مُمَالَةٍ؛ قَالَ الْكِسَائِيُّ: حَرْفَانِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ لَا يَقَعَانِ أَكثر مَا يَقَعَانِ إِلَّا مَعَ الْجَحْدِ وَهُمَا بَلْ وَلَكِنْ، وَالْعَرَبُ تَجْعَلُهُمَا مِثْلَ وَاوِ النَّسَقِ. ابْنُ سِيدَهْ: وَلَكِنْ وَلَكِنَّ حَرْفٌ يُثْبَتُ بِهِ بَعْدَ النَّفْيِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: الْقَوْلُ فِي أَلف لَكِنَّ ولكنْ أَن يَكُونَا أَصلين لأَن الْكَلِمَةَ حَرْفَانِ وَلَا يَنْبَغِي أَن تُوجَدَ الزِّيَادَةُ فِي الْحُرُوفِ، قَالَ: فَإِنْ سَمَّيْتَ بِهِمَا. وَنَقَلْتَهُمَا إِلَى حُكْمِ الأَسماء حَكَمْتَ بِزِيَادَةِ الأَلف، وَكَانَ وَزْنُ الْمُثَقَّلَةِ فاعِلًّا وَوَزْنُ الْمُخَفَّفَةِ فاعِلًا، وأَما قِرَاءَتُهُمْ: لكنَّا هو اللهُ هو رَبِّي فأَصلها لَكِنْ أَنا، فَلَمَّا حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ لِلتَّخْفِيفِ وأُلقيت حَرَكَتُهَا عَلَى نُونِ لَكِنْ صَارَ التَّقْدِيرُ لَكِنَّنَا، فَلَمَّا اجْتَمَعَ حَرْفَانِ مِثْلَانِ كُرِهَ ذَلِكَ، كَمَا كُرِهَ شَدَدَ وَجَلَلَ، فأَسكنوا النُّونَ الأُولى وأَدغموها فِي الثَّانِيَةِ فَصَارَتْ لكنَّا، كَمَا أَسكنوا الْحَرْفَ الأَول مِنْ شَدَدَ وَجَلَلَ فأَدغموه فِي الثَّانِي فَقَالُوا جَلَّ وشَدَّ، فاعْتَدُّوا بِالْحَرَكَةِ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ لَازِمَةٍ، وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي

، يُقَالُ: أَصله لكنْ أَنا، فَحُذِفَتِ الأَلف فَالْتَقَتْ نُونَانِ فَجَاءَ التَّشْدِيدُ لِذَلِكَ؛ وَقَوْلُهُ:

ولَسْتُ بِآتِيهِ وَلَا أَسْتَطِيعُه، ... ولاكِ اسْقِني إِنْ كَانَ ماؤُكَ ذَا فَضْلِ

إِنَّمَا أَراد: وَلَكِنِ اسْقِنِي، فَحُذِفَتِ النُّونُ لِلضَّرُورَةِ، وَهُوَ قَبِيحٌ، وَشَبَّهَهَا بِمَا يُحْذَفُ مِنْ حُرُوفُ اللِّينِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ لِلْمُشَاكَلَةِ الَّتِي بَيْنَ النُّونِ السَّاكِنَةِ وَحَرْفِ الْعِلَّةِ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: حَذْفُ النُّونِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ البَتَّةَ؛ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَقبح مِنْ حَذْفَ نُونِ مِنْ فِي قوله:

غيرُ الَّذِي قَدْ يقالُ مِ الكَذِبِ

مِنْ قِبَلِ أَن أَصل لَكِنِ الْمُخَفَّفَةِ لَكِنَّ الْمُشَدَّدَةَ، فَحُذِفَتْ إِحْدَى النُّونَيْنِ تَخْفِيفًا، فَإِذَا ذَهَبْتَ تَحْذِفُ النُّونَ الثَّانِيَةَ أَيضاً أَجحفت بِالْكَلِمَةِ؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: لَكِنْ، خَفِيفَةً وَثَقِيلَةً، حرفُ عَطْفٍ لِلِاسْتِدْرَاكِ وَالتَّحْقِيقِ يُوجَبُ بِهَا بَعْدَ نَفْيٍ، إِلَّا أَن الثَّقِيلَةَ تَعْمَلُ عَمَلَ إِنَّ تَنْصِبُ الإِسم وَتَرْفَعُ الْخَبَرَ، وَيُسْتَدْرَكُ بِهَا بَعْدَ النَّفْيِ والإِيجاب، تَقُولُ: مَا جَاءَنِي زَيْدٌ لكنَّ عَمْرًا قَدْ جَاءَ، وَمَا تَكَلَّمَ زيدٌ لكنَّ عَمْرًا قَدْ تَكَلَّمَ، وَالْخَفِيفَةُ لَا تَعْمَلُ لأَنها

<<  <  ج: ص:  >  >>