فَمَا تَرى فِيمَا تَرَى كَمَا تَرَى
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: فَالْقَوْلُ عِنْدِي فِي هَذِهِ الأَبيات أَنها لَوْ كَانَتْ عدَّتُها ثَلَاثَةً لَكَانَ الْخَطْبُ فِيهَا أَيسر، وَذَلِكَ لأَنك كُنْتَ تَجْعَلُ وَاحِدًا مِنْهَا مِنْ رُؤْية العَيْنِ كَقَوْلِكَ كَمَا تُبْصِر، وَالْآخَرَ مِنْ رُؤْية القَلْبِ فِي مَعْنَى الْعِلْمِ فَيَصِيرُ كَقَوْلِكَ كَمَا تَعْلم، وَالثَّالِثَ مِنْ رأَيْت الَّتِي بِمَعْنَى الرَّأْي الِاعْتِقَادِ كَقَوْلِكَ فُلَانٌ يَرَى رَأْي الشُّراةِ أَي يعتَقِدُ اعْتِقادَهم؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ
؛ فحاسَّةُ البَصَر هَاهُنَا لَا تتَوَجَّه وَلَا يَجُوزُ أَن يَكُونَ بِمَعْنَى أَعْلَمَك اللَّهُ لأَنه لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لوَجَب تعدِّيه إِلى ثَلَاثَةِ مَفْعولِين، وَلَيْسَ هُنَاكَ إِلا مَفْعُولَانِ: أَحدهما الْكَافُ فِي أَراك، وَالْآخَرُ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ لِلْغَائِبِ أَي أَراكَه، وإِذا تعدَّت أَرى هَذِهِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الثَّالِثِ بُدُّ، أَوَلا تَراكَ تَقُولُ فُلَانٌ يَرَى رأْيَ الْخَوَارِجِ وَلَا تَعْني أَنه يَعْلَمُ مَا يَدَّعون هُمْ عِلْمَه، وإِنما تَقُولُ إِنه يَعْتَقِدُ مَا يَعْتَقِدُونَ وإِن كَانَ هُوَ وَهُمْ عِنْدَكَ غَيْرَ عَالِمِينَ بأَنهم عَلَى الْحَقِّ، فَهَذَا قِسْمٌ ثَالِثٌ لرأَيت، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: فَلِذَلِكَ قُلْنَا لَوْ كَانَتِ الأَبيات ثَلَاثَةً لَجَازَ أَن لَا يَكُونَ فِيهَا إِيطاء لِاخْتِلَافِ الْمَعَانِي وإِن اتَّفَقَتِ الأَلفاظ، وإِذْ هِي خمسة فظاهر أَمرها أَن تَكُونَ إِيطاء لِاتِّفَاقِ الأَلفاظ وَالْمَعَانِي جَمِيعًا، وَذَلِكَ أَن الْعَرَبَ قَدْ أَجرت الْمَوْصُولَ وَالصِّلَةَ مُجْرى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ ونَزَّلَتْهما مَنْزِلَةَ الْخَبَرِ الْمُنْفَرِدِ، وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ؛ لأَنه سُبْحَانَهُ هُوَ الْفَاعِلُ لِهَذِهِ الأَشياء كُلِّهَا وَحْدَهُ، وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَف عَلَى نفسِه، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الصِّلَةُ وَالْمَوْصُولُ كَالْخَبَرِ الْوَاحِدِ وأَراد عَطْفَ الصِّلَةِ جَاءَ مَعَهَا بِالْمَوْصُولِ لأَنهما كأَنهما كِلَاهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ مُفْرَدٌ؛ وَعَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَيا ابْنَةَ عبدِ اللَّهِ وابْنَةَ مالِكٍ، ... وَيَا ابْنَةَ ذِي الجَدَّينِ والفَرَسِ الوَرْدِ
إِذا مَا صَنَعْتِ الزَّادَ، فالْتَمِسي لهُ ... أَكِيلًا، فإِني لسْتُ آكُلُه وَحْدي
فإِنما أَراد: أَيا ابْنة عبدِ اللَّهِ ومالِكٍ وَذِي الجَدّين لأَنها واحدةٌ، أَلا تَراهُ يَقُولُ صنعتِ وَلَمْ يَقُلْ صنعتُنَّ؟ فإِذا جازَ هَذَا فِي الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِليه كَانَ فِي الصِّلَةِ والموصولِ أَسْوَغَ، لأَنَّ اتِّصالَ الصِّلَةِ بِالْمَوْصُولِ أَشدُّ مِنَ اتِّصَالِ المضافِ إِليه بالمُضاف؛ وَعَلَى هَذَا قَوْلُ الأَعرابي وَقَدْ سأَله أَبو الْحَسَنِ الأَخفشُ عَنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
بَناتُ وَطَّاءٍ عَلَى خَدِّ اللَّيْل
فَقَالَ لَهُ: أَين الْقَافِيَةُ؟ فَقَالَ: خَدِّ الليلْ؛ قَالَ أَبو الْحَسَنِ الأَخفش: كأَنه يُرِيدُ الكلامَ الَّذِي فِي آخِرِ الْبَيْتِ قلَّ أَو كَثُر، فَكَذَلِكَ أَيضاً يَجْعَلُ مَا تَرَى وَمَا تَرَى جَمِيعًا الْقَافِيَةَ، وَيَجْعَلُ مَا مَرَّةً مَصْدَرًا وَمَرَّةً بِمَنْزِلَةِ الَّذِي فَلَا يَكُونُ فِي الأَبيات إِيطاء؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَتَلْخِيصُ ذَلِكَ أَن يَكُونَ تَقْدِيرُهَا أَما تَرَانِي رَجُلًا كرُؤْيَتِك أَحمل فَوْقِي بِزَّتِي كمَرْئِيِّك عَلَى قَلُوصٍ صَعْبَةٍ كعِلْمِكَ أَخاف أَن تَطْرَحَنِي كمَعْلُومك فَمَا تَرَى فِيمَا تَرَى كمُعْتَقَدِك، فَتَكُونُ مَا تَرَى مَرَّةً رُؤْيَةَ الْعَيْنِ، وَمَرَّةً مَرْئِيّاً، وَمَرَّةً عِلْماً وَمَرَّةً مَعلوماً، وَمُرَّةً مُعْتَقَداً، فَلَمَّا اخْتَلَفَتِ الْمَعَانِي الَّتِي وَقَعَتْ عَلَيْهَا مَا وَاتَّصَلَتْ بِهَا فَكَانَتْ جُزْءًا مِنْهَا لَاحِقًا بِهَا صَارَتِ الْقَافِيَةُ مَا تَرَى جَمِيعًا، كَمَا صَارَتْ فِي قَوْلِهِ خَدِّ اللَّيْلِ هِيَ خَدُّ اللَّيْلِ جَمِيعًا لَا اللَّيْلُ وَحْدَهُ؛ قَالَ: فَهَذَا قِيَاسٌ مِنَ الْقُوَّةِ بِحَيْثُ تَرَاهُ، فإِن قُلْتَ: فَمَا رَوِيُّ هَذِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute