للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ غيرُهُ. وَمِنْ أَسمائه المُغْنِي، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُوَ الَّذِي يُغني مَنْ يشاءُ مِنْ عِباده. ابْنُ سِيدَهْ: الغِنَى، مقصورٌ، ضدُّ الفَقْر، فَإِذَا فُتِح مُدَّ؛ فأَما قَوْلُهُ:

سَيُغْنِيني الَّذِي أَغْنَاكَ عَنِّي، ... فَلَا فَقْرٌ يدُومُ وَلَا غِناءٌ

فَإِنَّهُ: يُروى بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، فَمَنْ رَوَاهُ بِالْكَسْرِ أَراد مصدَرَ غَانَيْت، وَمَنْ رَوَاهُ بِالْفَتْحِ أَراد الغِنى نَفْسه؛ قَالَ أَبو إِسْحَاقَ: إِنَّمَا وَجْهُه وَلَا غَناء لأَن الغَناء غيرُ خارجٍ عَنْ مَعْنَى الغِنى؛ قَالَ: وَكَذَلِكَ أَنشده مَنْ يُوثَقُ بعِلْمِه. وَفِي الْحَدِيثِ:

خيرُ الصَّدَقَةِ مَا أَبْقَتْ غِنًى

، وَفِي رِوَايَةٍ:

مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى

أَي مَا فَضَل عَنْ قُوت الْعِيَالِ وكِفايتِهِمْ، فَإِذَا أَعْطَيْتَها غَيْرَك أَبْقَيْتَ بعدَها لكَ ولهُم غِنًى، وَكَانَتْ عَنِ اسْتِغْناءٍ منكَ، ومِنْهُم عَنْها، وَقِيلَ: خيرُ الصَّدَقَة مَا أَغْنَيْتَ بِهِ مَن أَعْطَيْته عَنِ المسأَلة؛ قَالَ: ظَاهِرُ هَذَا الكلامِ أَنه مَا أَغْنى عَنِ المَسْأَلة فِي وقْتِه أَو يَوْمِه، وأَما أَخْذُه عَلَى الإِطلاق فَفِيهِ مَشقَّة للعَجْزِ عَنْ ذَلِكَ. وَفِي حَدِيثِ الْخَيْلِ:

رجلٌ رَبَطها تَغَنِّياً وتَعَفُّفًا

أَي اسْتَغْناءً بِهَا عَنِ الطَّلب مِنَ النَّاسِ. وَفِي حَدِيثِ الجُمعة:

مَن اسْتَغْنَى بلَهْوٍ أَو تِجارةٍ اسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْهُ، واللهُ غَنِيٌّ حَمِيد

، أَي اطَّرَحَه اللهُ ورَمَى بِهِ مِنْ عَيْنه فِعْلَ مَنِ اسْتَغْنَى عَنِ الشَّيْءِ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: جَزاهُ جَزاءَ اسْتِغْنائه عَنْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ. وَقَدْ غَنِيَ بِهِ عَنْهُ غُنْيَة وأَغْناه اللَّهُ. وَقَدْ غَنِيَ غِنىً واسْتَغْنَى واغْتَنَى وتَغَانَى وتَغَنَّى فَهُوَ غَنِيٌّ. وَفِي الْحَدِيثِ:

لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بالقرآنِ

؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: كَانَ سفيانُ بنُ عُيَيْنة يَقُولُ ليسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَسْتَغنِ بِالْقُرْآنِ عَنْ غيرِه وَلَمْ يَذْهَبْ بِهِ إِلَى الصَّوْتِ؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: وَهَذَا جائزٌ فَاشٍ فِي كلام العرب، ويقول: تَغَنَّيْت تَغَنِّياً بِمَعْنَى اسْتَغْنَيْت وتَغانَيْتُ تَغانِياً أَيضاً؛ قَالَ الأَعشى:

وكُنْتُ امْرَأً زَمَناً بالعِراق، ... عَفِيفَ المُناخِ طَويلَ التَّغَنْ

يُرِيدُ الاسْتِغْناءَ، وَقِيلَ: أَرادَ مَنْ لَمْ يَجْهَر بِالْقِرَاءَةِ. قَالَ الأَزهري: وأَما الْحَدِيثُ الْآخَرُ

مَا أَذِنَ اللَّهُ لشيءٍ كأَذَنِه لنَبيٍّ يَتَغَنَّى بالقرآنِ يَجْهَرُ بِهِ

، قَالَ: فإنَّ عبدَ الملِك أَخْبرني عَنِ الرَّبِيعِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنه قَالَ مَعْنَاهُ تَحْسِينُ القِراءةِ وتَرْقِيقُها، قَالَ: وَمِمَّا يُحَقّقُ ذَلِكَ الحديثُ الآخرُ

زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ

، قَالَ: ونحوَ ذَلِكَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ؛ وَقَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: الَّذِي حَصَّلْناه مِنْ حُفَّاظ اللُّغَةِ فِي

قَوْلِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كأَذَنِه لِنَبيٍّ يَتَغَنَّى بالقرآنِ

، أَنه عَلَى مَعْنَيَيْنِ: عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ، وَعَلَى التَّطْرِيبِ؛ قَالَ الأَزهري: فَمَنْ ذهَب بِهِ إِلَى الِاسْتِغْنَاءِ فَهُوَ مِنَ الغِنَى، مقصورٌ، وَمَنْ ذهَب بِهِ إِلَى التَّطْرِيبِ فَهُوَ مِنَ الغِنَاء الصَّوْتِ، ممدودٌ. الأَصمعي فِي الْمَقْصُورِ وَالْمَمْدُودِ: الغِنَى مِنَ الْمَالِ مقصورٌ، وَمِنَ السَّماعِ مَمْدُودٌ، وكلُّ مَنْ رَفَع صوتَه ووَالاهُ فصَوْتُه عِنْدَ الْعَرَبِ غِناءٌ. والغَنَاءُ، بالفتح: النَّفْعُ. والغِناء، بِالْكَسْرِ: مِنَ السَّماع. والغِنَى، مقصورٌ: اليَسارُ. قَالَ ابْنُ الأَعرابي: كَانَتِ الْعَرَبُ تتَغَنَّى بالرُّكْبانيِّ، «٣» إِذَا رَكِبَت الإِبلَ، وَإِذَا جَلَست فِي الأَفْنِية وَعَلَى أَكثر أَحوالها، فلمَّا نَزَلَ القرآنُ أَحبَّ النبيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَن يَكُونَ هِجِّيرَاهُم بِالْقُرْآنِ


(٣). قوله [الركباني] في هامش نسخة من النهاية: هو نشيد بالمد والتمطيط يعني لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يضع القرآن موضع الركباني في اللهج به والطرب عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>