القضاء والفتوى مبينيان على إعمال النظر في الصور الجزئية، وإدراك ما اشتملت عليه من الأوصاف الكائنة فيها، فيلغي طرديها، ويعمل مستعيرها؛ ولذا ذكرها ابن الرقيق أن أمير إفريقية استفتي أسد بن الفرات في دخوله بجواريه الحمام دون ساتر له ولهن، فأجاب بجوازه؛ لأنهن ملكه، فأجابه أبو محرز بمنع ذلك قائلاً له: لأنه إن جاز لك نظرهن كذلك، ونظرهن إليك كذلك؛ لم يجز لهن نظر بعضهن بعضاً كذلك، فأغفل أسد إعمال كمال النظر في هذه الصورة الجزئية، فلم يدرك حالهن فيما بينهن، واعتبره أبو محرز فأصاب.
وفيها: قال مالك: ليس علم القضاء كغيره من العلم، ولا أعلم بهذا البلد أحداً أعلم بالقضاء من أبي بكر بن عبد الرحمن، وكان أخذ شيئاً من القضاء من أبان بن عثمان، وأخذ أبان ذلك من أبيه عثمان.
قلت: كذا وقع هذا الكلام في المدونة معزواُ لأبي بكر بن عبد الرحمن، وفيه نظر؛ لأنه إنما كان مشهوراً بالعبادة في كتاب الاعتكاف من المدونة: لم يبلغني أن أحداً من السلف اعتكف إلا أبو بكر بن عبد الرحمن، ووقع في رواية ابن وهب عزو هذا الذي في المدونة لأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، لما عرف ابن الحداء في كلامه على رجال الموطأ عرف بأبي بكر بن عبد الرحمن.
وقال فيه يقال: إنه راهب قريش لفضله، وكثرة صلاحه، ولم يصفه بولاية قضاء، ثم عرف بأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فقال فيه: توفي بالمدينة، وبها كان مسكنه سنة عشرين ومائة، وكان قاضياً بها، وقضى بها ابنه بعده عبد الله.
وقال ابن وهب عن مالك: لم يكن عند أحد من أهل المدينة من العلم بالقضاء ما كان عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وكان فقيهاً، وأمره عمر بن عبد العزيز على المدينة بعد أن كان قاضياً.
قال مالك: ولم يكن على المدينة أمير أنصاري غير أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم.
وفي رواية عن ابن وهب: وكان أبو بكر تعلم القضاء من أبان بن عثمان بن عفان،