كل ذلك على الصفة التي ذكرناها في الطواف والسعي أولَ قدومه مكة، من ترتيب، وأدعية، وغير ذلك، فإذا فرغ من السعي نحر الهدي إن كان معه، ثم حلق أو قصر، وحل بذلك عند الأربعة، وقد تمت عمرته. لكن الحنفية قالوا: إن كان ساق الهدي، لم يتحلل، ويبقى على إحرامه لا يحلق ولا يقصر إلى أن يذبح هديه يوم النحر كما سبق، وما يفعله كثير من العوام من حلق الرأس مقطَّعاً في كل عمرة بعضه، فهو القزع الذي نهى عنه - صلى الله عليه وسلم -، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "احلقوه كلَّه، أو اتركوه كله".
قال الغزالي: والمقيمُ بمكة ينبغي أن يُكثر الاعتمارَ والطوافَ، وليكثر النظر إلى البيت، فإذا دخله، فليصلِّ ركعتين بين العمودين، فهو الأفضل، وليدخله حافياً موقراً، قيل لبعضهم: هل دخلتَ بيتَ ربك اليوم؟ فقال: ما أرى هاتين القدمين أهلاً للطواف حول بيت ربي، فكيف أراهما أهلاً لأن أطأ بهما بيت ربي؟ وقد علمت حيث مَشَتا، وإلى أينَ مَشَتا، انتهى.
وقال العز بن جماعة في "منسكه": ينبغي أن يغتنم الحاج مدة إقامته بمكة المشرفة، فيكثر من الطواف، فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "من طاف هذا البيت، فأحصاه، كان كمن أعتق رقبة، وعنه - صلى الله عليه وسلم -: "إن الطائف لا يرفع قدماً، ولا يضع قدماً، إلا حط الله تعالى عنه بها خطيئة، وكتب له بها حسنة، ورفع له بها درجة"، وعنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه جعل في ركعتي الطواف ثواب عتق رقبة، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الحجر الأسود نزل من الجنة، وهو أشدُّ بياضاً من اللبن، فسوَّدته خطايا بني آدم"، وقد رأيته: سنة ثمان وسبع مئة [٧٠٨]، وبه نقطة بيضاء ظاهرة لكل أحد، ثم حججت بعد ذلك، فرأيت البياض قد نقص بحيث إنه لم أره في ست وثلاثين إلا بعسر.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الركن والمقام من ياقوت الجنة، ولولا ما مسهما من خطايا بني آدم، لأضاءا ما بين المشرق والمغرب، وما مسَّهما من ذي عاهة ولا سقيم إلا شفي"، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليبعثنَّ اللهُ الحجرَ يومَ القيامة له عين يبصر بها، ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق".