وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَلَا تَقْدَحُ وَلَا تَجِبُ إلَّا فِي التَّحْرِيمِ إنْ شَهِدَ عَلَى أَحَدٍ.
ابْنُ رُشْدٍ: الشَّهَادَةُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْحُدُودِ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقٌّ لِمَخْلُوقٍ كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ لَا يَلْزَمُ الْقِيَامُ بِهَا، وَيُسْتَحَبُّ سَتْرُهُ إلَّا فِي الْمُشْتَهِرُ، وَلَا تَبْطُلُ بِتَرْكِ الْقِيَامِ وَإِنْ كَانَ مُشْتَهِرًا اتِّفَاقًا.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي مَسَالِكِهِ: الْمَشْهُودُ بِهِ إنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ وَلَا يُسْتَدَامُ فِيهِ التَّحْرِيمُ كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخُمُورِ. زَادَ أَصْبَغُ: وَالسَّرِقَةِ. فَتَرْكُ الشَّهَادَةِ لَهُ جَائِزَةٌ، وَلَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ الْإِمَامُ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَكْتُمُهَا وَلَا يَشْهَدُ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي أَرْبَعَةٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَتَعَلَّقُوا بِهِ وَرَفَعُوا لِلسُّلْطَانِ وَشَهِدُوا عَلَيْهِ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَيُحَدُّونَ لِأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ.
ابْنُ رُشْدٍ: إنَّمَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّ تَعَلُّقَهُمْ بِهِ وَرَفْعَهُمْ إيَّاهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ بَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ لَهُمْ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَأْمُورٌ بِالسَّتْرِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ.
قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَصَابَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ» قَالَ فِي التَّمْهِيدِ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السِّتْرَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ إذَا أَتَى فَاحِشَةً، وَوَاجِبُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي غَيْرِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إذَا رَأَيْته عَلَى مَعْصِيَةٍ فَعِظْهُ فِيمَا بَيْنَك وَبَيْنَهُ وَلَا تَفْضَحْهُ. رَوَى النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ رَأَى عَوْرَةً فَسَتَرَهَا كَانَ كَمَنْ أَحْيَا مَوْءُودَةً مِنْ قَبْرِهَا» «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهَزَّالٍ: هَلَّا سَتَرْته بِرِدَائِك» خَرَّجَهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ. وَلَمَّا «أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَطْعِ السَّارِقِ وَقَالَ صَفْوَانُ: لَمْ أُرِدْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ؟» وَكَذَلِكَ الْجِوَارُ أَمَانَةٌ وَالْجَارُ عَلَيْهِ أَمِينٌ يَغُضُّ بَصَرَهُ وَيَصُمُّ أُذُنَيْهِ وَيَكُفُّ عَنْهُ أَذَاهُ وَيَسْدُلُ دُونَهُ حِجَابَهُ، فَإِنْ رَأَى عَوْرَةً سَتَرَهَا أَوْ سَيِّئَةً غَفَرَهَا أَوْ حَسَنَةً بَثَّهَا وَنَشَرَهَا.
كَانَ لِأَبِي حَنِيفَةَ جَارٌ إسْكَافٌ يَعْمَلُ نَهَارَهُ أَجْمَعَ فَإِذَا جَنَّهُ اللَّيْلُ رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ وَقَدْ حَمَلَ لَحْمًا فَطَبَخَهُ أَوْ سَمَكَةً فَشَوَاهَا ثُمَّ لَا يَزَالُ يَشْرَبُ حَتَّى إذَا دَبَّ الشَّرَابُ فِيهِ غَزَلَ بِصَوْتٍ يَقُولُ: أَضَاعُونِي وَأَيُّ فَتًى أَضَاعُوا. لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وَسَدَادِ ثَغْرٍ. فَلَا يَزَالُ يَشْرَبُ وَيُرَدِّدُ هَذَا الْبَيْتَ حَتَّى يَأْخُذَهُ النَّوْمُ. وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يُصَلِّي اللَّيْلَ كُلَّهُ فَفَقَدَ أَبُو حَنِيفَةَ لَيْلَةً صَوْتَهُ فَاسْتَخْبَرَ عَنْهُ فَقِيلَ: أَخَذَهُ الشُّرَطُ وَهُوَ مَحْبُوسٌ. فَلَمَّا صَلَّى أَبُو حَنِيفَةَ الصُّبْحَ مِنْ غَدِهِ رَكِبَ بَغْلَتَهُ وَجَاءَ الْأَمِيرَ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَهُ وَأَنْ لَا يَنْزِلَ حَتَّى يَطَأَ الْبِسَاطَ، فَلَمْ يَزَلْ الْأَمِيرُ يُوَسِّعُ لَهُ فِي مَجْلِسِهِ حَتَّى أَنْزَلَهُ مُسَاوِيًا لَهُ. فَقَالَ: مَا حَاجَتُك؟ فَقَالَ: إسْكَافٌ أَخَذَهُ الْحَرَسُ لِيَأْمُرْ الْأَمِيرُ بِتَخْلِيَتِهِ.
قَالَ: نَعَمْ وَكُلُّ مَنْ أُخِذَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَخَلَّى جَمِيعَهُمْ فَرَكِبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْإِسْكَافُ يَمْشِي وَرَاءَهُ، وَلَمَّا نَزَلَ مَضَى إلَيْهِ وَقَالَ: يَا فَتَى أَضَعْنَاك؟ قَالَ: لَا، بَلْ حَفِظْت وَرَعَيْت جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا عَنْ حُرْمَةِ الْجَارِ وَرِعَايَةِ الْحَقِّ، وَتَابَ الرَّجُلُ عَمَّا كَانَ فِيهِ بَيْدَ أَنَّ هَذَا فِي كُلِّ ذَنْبٍ يَخْتَصُّ بِالْعَبْدِ لَا يَتَعَدَّاهُ، فَإِنْ كَانَ يَلْحَقُ غَيْرَهُ مِنْهُ ظُلْمٌ فَخَيْرُ الشُّهُودِ الَّذِي يَأْتِي بِالشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهَا مِنْ ذَلِكَ شَهَادَةُ ابْنِ عَوْفٍ فِي حَدِيثِ الْوَفَاءِ، وَمِنْ ذَلِكَ شَهَادَةُ الرَّجُلِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنَّ حَمْلَهَا لَيْسَ مِنْهُ.
وَأَمَّا شَهَادَتُهُ عَلَى رُؤْيَتِهِ لِزِنَاهَا فَمَكْرُوهٌ، وَالْفِرَاقُ مَعَ السَّتْرِ أَفْضَلُ وَأَوْلَى وَأَوْجَبُ وَأَحْرَى، وَأَمَّا مَعَ إلْحَاقُ غَيْرِ وَلَدِهِ بِهِ فَلَا صَبْرَ.