مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ» الْحَدِيثَ.
فِيهِ جَوَازُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْإِدَارَةِ وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَتَأَوَّلَ ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ابْنُ رُشْدٍ: إنَّمَا كَرِهَهُ مَالِكٌ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُبْتَدَعٌ وَلِأَنَّهُمْ يَبْتَغُونَ بِهِ الْأَلْحَانَ عَلَى نَحْوِ مَا يُفْعَلُ فِي الْغِنَاءِ فَوَجْهُ الْمَكْرُوهِ فِي ذَلِكَ بَيِّنٌ.
الْمَازِرِيُّ: وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُبِيحُ الِاجْتِمَاعَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَإِنْ كَانَ مَالِكٌ قَدْ قَالَ بِالْكَرَاهَةِ لِنَحْوِ مَا اقْتَضَى هَذَا الظَّاهِرُ جَوَازَهُ.
وَقَالَ: يُقَامُونَ وَلَعَلَّهُ لَمَّا صَادَفَ الْعَمَلَ لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَيْهِ كَرِهَ إحْدَاثَهُ وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَتْرُكُ بَعْضَ الظَّوَاهِرِ بِالْعَمَلِ.
وَقَالَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوَاعِدِهِ: مِنْ الْعَجَبِ الْعَجِيبِ أَنْ يَقِفَ الْمُقَلِّدُ عَلَى ضَعْفِ مَأْخَذِ إمَامِهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُقَلِّدُهُ كَأَنَّ إمَامَهُ نَبِيٌّ أُرْسِلَ إلَيْهِ وَهَذَا نَأْيٌ عَنْ الْحَقِّ وَبُعْدٌ عَنْ الصَّوَابِ لَا يَرْضَى بِهِ أَحَدٌ مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ، بَلْ تَجِدُ أَحَدَهُمْ يُنَاضِلُ عَنْ مُقَلَّدِهِ وَيَتَحَيَّلُ لِدَفْعِ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيَتَأَوَّلُهَا وَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَجَالِسِ فَإِذَا ذُكِرَ لِأَحَدِهِمْ خِلَافُ مَا وَطَّنَ عَلَيْهِ نَفْسَهُ تَعَجَّبَ مِنْهُ غَايَةَ التَّعَجُّبِ لِمَا أَلِفَهُ مِنْ تَقْلِيدِ إمَامِهِ حَتَّى ظَنَّ أَنَّ الْحَقَّ مُنْحَصِرٌ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ، وَلَوْ تَدَبَّرَ لَكَانَ تَعَجُّبُهُ مِنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ.
فَالْبَحْثُ مَعَ هَؤُلَاءِ ضَائِعٌ مُفْضٍ إلَى التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ يُجْدِيهَا، فَالْأَوْلَى تَرْكُ الْبَحْثِ مَعَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ إذَا عَجَزَ أَحَدُهُمْ عَنْ تَمْشِيَةِ مَذْهَبِ إمَامِهِ قَالَ: لَعَلَّ إمَامِي وَقَفَ عَلَى دَلِيلٍ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ، وَلَا يَعْلَمُ الْمِسْكِينُ أَنَّ هَذَا مُقَابَلٌ بِمِثْلِهِ وَيُفَصِّلُ لِخَصْمِهِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ.
فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ مَنْ أَعْمَى التَّقْلِيدُ بَصَرَهُ حَتَّى حَمَلَهُ عَلَى مِثْلِ مَا ذَكَرْته، وَفَّقَنَا اللَّهُ لِاتِّبَاعِ الْحَقِّ أَيْنَمَا كَانَ وَعَلَى لِسَانِ مَنْ ظَهَرَ، انْتَهَى نَصُّهُ.
(وَجُلُوسٌ لَهَا لَا لِتَعْلِيمٍ) تَقَدَّمَ نَصُّ الْمُدَوَّنَةِ: كَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَجْلِسَ إلَيْهِ لَا يُرِيدُ تَعْلِيمًا (وَأُقِيمَ الْقَارِئُ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْخَمِيسِ، أَوْ غَيْرِهِ) مِنْ الْمُدَوَّنَةِ قَالَ مَالِكٌ: يُقَامُ الَّذِي يَقْعُدُ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْخَمِيسِ، أَوْ غَيْرِهِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.
وَفِي الْعُتْبِيَّةِ: وَالْقِرَاءَةُ فِي الْمَسَاجِدِ مُحْدَثَةٌ وَلَنْ يَأْتِيَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَهْدَى مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلُهَا وَالْقُرْآنُ حَسَنٌ، قِيلَ: فَالتَّقَرِّي فِي الْمَسْجِدِ إذَا خَفَّ أَهْلُهُ جَعَلُوا رَجُلًا حَسَنَ الصَّوْتِ فَقَرَأَ لَهُمْ، فَكَرِهَهُ.
قِيلَ: فَقَوْلُ عُمَرَ لِأَبِي مُوسَى ذَكِّرْنَا رَبَّنَا قَالَ: وَاَللَّهِ مَا سَمِعْت هَذَا قَطُّ قَبْلَ هَذَا الْمَجْلِسِ.
ابْنُ رُشْدٍ: كَرِهَهُ إذَا أَرَادُوا بِذَلِكَ حُسْنَ صَوْتٍ لَا إذَا قَالُوا لَهُ ذَلِكَ اسْتِدْعَاءً لِرِقَّةِ قُلُوبِهِمْ بِسَمَاعِ قِرَاءَتِهِ الْحَسَنَةِ.
وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إذَا رَأَى أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ قَالَ: ذَكِّرْنَا رَبَّنَا فَيَقْرَأُ عِنْدَهُ وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ، وَإِنَّمَا اسْتَدْعَى عُمَرُ رِقَّةَ قَلْبِهِ بِسَمَاعِ قِرَاءَتِهِ لِلْقُرْآنِ وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ إذَا صَحَّ مِنْ فَاعِلِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا اتَّقَى مَالِكٌ أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ذَرِيعَةَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنْ يُقَدَّمَ الرَّجُلُ لِلْإِمَامَةِ لِحُسْنِ صَوْتِهِ لَا لِمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا يُرَغَّبُ فِي إمَامَتِهِ مِنْ أَجْلِهِ، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بَادِرُوا بِالْمَوْتِ سِتًّا» أَحَدُهُمَا بَشَرٌ يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مِنْ أَمِيرٍ يُقَدِّمُونَ أَحَدَهُمْ لِيُغْنِيَهُمْ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّهُمْ فِقْهًا ".
قَالَ عِيَاضٌ: كَانَ سَحْنُونَ رَقِيقَ الْقَلْبِ.
قَالَ لِرَجُلٍ مَرَّةً: اقْرَأْ عَلَيَّ.
فَقَرَأَ: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} [غافر: ٤١] فَلَمَّا بَلَغَ {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} [غافر: ٤٤] الْآيَةَ قَالَ: حَسْبُك وَهُوَ يَبْكِي.
(وَفِي كُرْهِ قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ رِوَايَتَانِ) مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ: سُئِلَ عَنْ قُرَّاءِ مِصْرٍ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقْرِئُ النَّفَرَ