قَالُوا: وَهَذَا - عَلَى أَصْلِ مَنْ جَعَلَهَا أُجْرَةَ سُكْنَى الدَّارِ - أَطْرَدُ فَإِنَّ الْأُجْرَةَ تَجِبُ عَقِيبَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا أُخِذَتْ مِنْهُمْ مُقَسَّطَةً بِتَكَرُّرِ الْأَعْوَامِ رِفْقًا بِهِمْ وَلِيَسْتَمِرَّ نَفْعُ الْإِسْلَامِ بِهَا وَقُوَّتُهُ كُلَّ عَامٍ بِخَرَاجِ الْأَرَضِينَ.
قَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَمَّا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ لَمْ يُطَالِبْهُمْ بِهَا حَتَّى ضَرَبَهَا عَلَيْهِمْ، وَلَا أَلْزَمَهُمْ بِأَدَائِهَا فِي الْحَالِ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ بَلْ صَالَحَهُمْ عَلَيْهَا، وَكَانَ يَبْعَثُ رُسُلَهُ وَسُعَاتَهُ فَيَأْتُونَ بِالْجِزْيَةِ وَالصَّدَقَةِ عِنْدَ مَحَلِّهِمَا، وَاسْتَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ سِيرَةُ خُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَهَذَا مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولِهَا، فَإِنَّ الْأَمْوَالَ الَّتِي تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْأَعْوَامِ إِنَّمَا تَجِبُ فِي آخِرِ الْعَامِ لَا فِي أَوَّلِهِ كَالزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَجَّلَ عَلَى رَجُلٍ مَالًا كُلَّ عَامٍ يُعْطِيهِ كَذَا وَكَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِقِسْطِ الْعَامِ الْأَوَّلِ عَقِيبَ الْعَقْدِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: ٢٩] ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْعَطَاءَ الْأَوَّلَ وَحْدَهُ بَلِ الْعَطَاءُ الْمُسْتَمِرُّ الْمُتَكَرِّرُ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَا ذَكَرْتُمْ لَكَانَ الْوَاجِبُ أَخْذَ الْجَمِيعِ عَقِيبَ الْعَقْدِ، وَهَذَا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: حَتَّى يَلْتَزِمُوا عَطَاءَ الْجِزْيَةِ وَبَذْلَهَا، وَهَذِهِ كَانَتْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا الْتَزَمُوا لَهُ بَذْلَ الْجِزْيَةِ كَفَّ عَنْهُمْ بِمُجَرَّدِ الْتِزَامِهِمْ، وَلِهَذَا يَحْرُمُ قِتَالُهُمْ إِذَا الْتَزَمُوهَا قَبْلَ إِعْطَائِهِمْ إِيَّاهَا اتِّفَاقًا، وَلِهَذَا قَالَ - فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ -: " «فَادْعُهُمْ إِلَى الْجِزْيَةِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ» " وَإِنَّمَا كَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ بِهَا وَالْتِزَامِهَا دُونَ الْأَخْذِ فِي الْحَالِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَجِبُ بِأَوَّلِ السَّنَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ تَسْتَقِرُّ جُزْءًا بَعْدَ جُزْءٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute