والشاهد في قول أبي عبيد هذا أنه قال في أحاديث الرؤية: "نؤمن بها على ما جاءت"، مع أن رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة معلومة المعنى، وكان السلف يؤمنون بها على معناها الظاهر، وهو أن المؤمنين يرون الله تبارك وتعالى بأبصارهم عيانا، فلم يكونوا يؤمنون بمجرد لفظها من دون معنى يُفهَم منها. ومثل قول أبي عبيد هذا قول الإمام أحمد كما في السنة لأبي بكر الخلال (١/ ٢٤٦ - ٢٤٧) أن أبا بكر المروذي قال: سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تردها الجهمية في الصفات، والرؤية، والإسراء، وقصة العرش، فصححها أبو عبد الله، وقال: "قد تلقتها العلماء بالقبول، نسلِّم الأخبار كما جاءت، قال: فقلت له: إن رجلا اعترض في بعض هذه الأخبار كما جاءت فقال: يجفى، وقال: ما اعتراضه في هذا الموضع! يسلِّم الأخبار كما جاءت". فالإمام أحمد قال في أحاديث الرؤية والإسراء والصفات بأنها تُسَلَّم كما جاءت، وقرن بينها، وساقها مساقًا واحدًا، ومعلوم أن رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة معلومة المعنى، وكذلك إسراء النبي صلى الله عليه وسلم معلوم، ولم يقل أحد بتفويض المعنى في الإسراء، فكذلك آيات وأحاديث الصفات تُمرَّ كما جاءت مع اعتقاد ما دلت عليه من المعاني، ووصْف الله تعالى بها. فَعُلِم أن السلف لم يريدوا بقولهم: "أمرّوها كما جاءت" تفويض المعنى، وإنما تفويض الكيف. ومما يؤكد ذلك أيضًا أنّ الإمام أحمد رحمه الله قال نفس العبارة: "أمرّوها كما جاءت" في غير أحاديث الصفات كأحاديث الوعيد، مع كونها معلومة المعنى، ففي أصول السنة للإمام أحمد (ص: ٥٦ - ٥٨) أنه قال: " «ثلاث من كن فيه فهو منافق» على التغليظ، نرويها كما جاءت ولا نقيسها، وقوله: «لا ترجعوا بعدي كفارا ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض»، ... ونحو هذه الأحاديث مما قد صح وحفظ، فإنا نسلِّم له وإن لم نعلم تفسيرها ولا نتكلم فيها ولا نجادل فيها ولا نفسّر هذه الأحاديث إلا مثل ما جاءت لا نردها إلا بأحق منها". قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الإكليل في المتشابه والتأويل (ص: ٣٤): "وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات: "تمر كما جاءت"، وفي أحاديث الوعيد مثل قوله: «من غشنا فليس منا»، وأحاديث الفضائل، ومقصوده بذلك أن الحديث لا يحرّف كلمه عن مواضعه كما يفعله من يحرفه ويسمى تحريفه تأويلا بالعرف المتأخر". وقال أيضًا كما في مجموع الفتاوى (٥/ ٤٢): "فقولهم: "أمرّوها كما جاءت" يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظ دالة على معان، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمرّوا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو أمرّوا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ فلا تكون قد أُمرّت كما جاءت، ولا يقال حينئذ بلا كيف، إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول".