للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

[٦١ - قول الحافظ ابن عبد البر (المتوفى: ٤٦٣)]

قال الحافظ ابن عبد البر في التمهيد (٧/ ١٣١): "وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء، وقولهم في تأويل (استوى) استولى فلا معنى له؛ لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة، والله لا يغالبه ولا يعلوه أحد، وهو الواحد الصمد، ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز؛ إذ لا سبيل إلى اتباع ما أُنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك، وإنما يُوجّه كلام الله عز وجل إلى الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم.

ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدّع ما ثبت شيء من العبارات، وجلّ الله عز وجل عن أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين، والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه، ...

قال أبو عمر: الاستواء: الاستقرار في العلو وبهذا خاطبنا الله عز وجل، وقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} ".

وقال أيضًا في التمهيد (٧/ ١٣٣ - ١٣٤): "أما سمعوا الله عز وجل حيث يقول: {وقالَ فِرعَونُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً}، فدلّ على أن موسى عليه السلام كان يقول إلهي في السماء وفرعون يظنه كاذبًا ...

ومن الحجة أيضا في أنه عز وجل على العرش فوق السموات السبع أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر أو نزلت بهم شدة رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يؤنبهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم".

وقال أيضًا في التمهيد (٧/ ١٣٧): "وقد عقلنا وأدركنا بحواسنا أن لنا أرواحا في أبداننا ولا نعلم كيفية ذلك، وليس جهلنا بكيفية الأرواح يوجب أن ليس لنا أرواح، وكذلك ليس جهلنا بكيفية على عرشه يوجب أنه ليس على عرشه".

وقال أيضًا في التمهيد (٧/ ١٥٢ - ١٥٣): "وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا» عندهم [أي: الصحابة] مثل قول الله عز وجل {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} ومثل قوله {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} كلهم يقول: ينزل ويتجلى ويجيء بلا كيف، لا يقولون: كيف يجيء، وكيف يتجلى، وكيف ينزل، ولا من أين جاء، ولا من أين تجلى، ولا من أين ينزل؛ لأنه ليس كشيء من خلقه، وتعالى عن الأشياء ولا شريك له.

وفي قول الله عز وجل: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} دلالة واضحة أنه لم يكن قبل ذلك متجليا للجبل، وفي ذلك ما يفسِّر معنى حديث التنزيل".

وقال أيضًا في التمهيد (٧/ ١٤٥): "أهل السنة مجموعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة، ويزعمون أن مَن أقر بها مشبّه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود (١)،

والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله، وهم أئمة الجماعة. والحمد لله".

وقال أيضًا في الاستذكار (٢/ ٥٢٩): "وأما قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «ينزل ربنا» الذي عليه أهل العلم من أهل السنة والحق الإيمان بمثل هذا وشبهه من القرآن والسنن دون كيفية، فيقولون: ينزل، ولا يقولون: كيف النزول، ولا يقولون: كيف الاستواء، ولا كيف المجيء في قوله عز وجل: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً}، ولا كيف التجلي في قوله: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) ".

وقال أيضًا في التمهيد (٧/ ١٤٣): "وأما قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث «ينزل تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا» فقد أكثر الناس التنازع فيه، والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة أنهم يقولون ينزل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصدقون بهذا الحديث، ولا يكيفون، والقول في كيفية النزول كالقول في كيفية الاستواء والمجيء، والحجة في ذلك واحدة".

وقال أيضًا في التمهيد (٧/ ١٤٨): "الذي عليه أهل السنة وأئمة الفقه والأثر في هذه المسألة [أي: مسألة النزول] وما أشبهها الإيمان بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها والتصديق بذلك، وترك التحديد والكيفية في شيء منه".


(١) قال الحافظ الذهبي في العلو للعلي الغفار (ص: ٢٥٠) بعد قول ابن عبد البر هذا: "صدق -والله - فإن مَن تأول سائر الصفات وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام أدّاه ذلك السلب إلى تعطيل الرب وأن يشابه المعدوم كما نقل عن حماد بن زيد أنه قال: مثل الجهمية كقوم قالوا: في دارنا نخلة، قيل: لها سعف؟ قالوا: لا. قيل: فلها كرب؟ قالوا: لا. قيل: لها رطب وقنو؟ قالوا: لا. قيل: فلها ساق؟ قالوا لا. قيل: فما في داركم نخلة.
قلتُ: كذلك هؤلاء النفاة قالوا: إلهنا الله تعالى، وهو لا في زمان ولا في مكان، ولا يُرى، ولا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ولا يرضى ولا يغضب ولا يريد ولا ولا، وقالوا سبحان المنزه عن الصفات.
بل نقول: سبحان الله العلي العظيم السميع البصير المريد الذي كلم موسى تكليما، واتخذ إبراهيم خليلا، ويُرى في الآخرة، المتصف بما وصف به نفسه ووصفه به رسله، المنزه عن سمات المخلوقين وعن جحد الجاحدين، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير".

<<  <   >  >>