[٧٠ - قول الإمام أبي الحسن علي ابن الزاغوني (المتوفى: ٥٢٧)]
قال في كتابه إيضاح أصول الدين (٢٨٤ - ٢٨٧): "وقد وصف الباري نفسه في القرآن باليدين بقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وقال تعالى: {وقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ} إلى قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وهذه الآية تقتضي إثبات صفتين ذاتيتين تسميان بيدين.
وذهبت المعتزلة وطائفة من الأشعرية إلى أن المراد باليدين النعمتين.
وذهبت طائفة منهم إلى أن المراد باليدين هاهنا القدرة.
والدلالة على كونهما صفتين ذاتيتين يزيدان على النعمة وعلى القدرة أنا نقول: القرآن نزل بلغة العرب، واليد المطلقة في لغة العرب وفي معارفهم وعاداتهم المراد بها إثبات صفة ذاتية للموصوف، لها خصائص فيما يقصد بها، وهي حقيقة في ذلك، كما ثبت في معارفهم الصفة التي هي القدرة، والصفة التي هي العلم، كذلك سائر الصفات من الوجه والسمع والبصر والحياة وغير ذلك، وهذا هو الأصل في هذه الصفة، وأنهم لا ينتقلون عن هذه الحقيقة إلى غيرها مما يقال على سبيل المجاز إلا بقرينة تدل على ذلك، فأما مع الإطلاق فلا، ولهذا يقولون: لفلان عندي يد، ويراد بذلك ما يصل من الإحسان بواسطة اليد، وإنما فُهم ذلك بإضافة اليد إلى قوله "عندي"، ويقول ذلك وبينهما من البعد والحوائل ما لو أراد اليد الحقيقية لكان كاذبا، ولهذا لو كان بحيث أن يكون عنده يده الحقيقية، وهو أن يكونا متماسين في الاجتماع ويحيط بهما ثوب أو على صفة يمكن إدخال يده إلى باطن ثوبه، فقال حينئذ: لفلان عندي يد لا يصرف القول فيه إلا إلى اليد الحقيقية؛ لأن شاهد الحال قد قطع عمل القرينة، والإطلاق في التعارف أكثر من شاهد الحال في القرب، من جهة أنه يجوز أن يتجوز به للقرينة، لكن غلب شاهد الحال عليه في القرب، فالإطلاق بذلك أحق وأولى ...
ودليل آخر نقول: لا شك أن الرجوع في الكلام الوارد عن الحقيقة والظاهر المعهود إلى المجاز إنما يكون بأحد ثلاثة أشياء:
أحدها: أن يعترض على الحقيقة مانع يمنع من إجرائها على ظاهر الخطاب.
الثاني: أن تكون القرينة لها تصلح لنقلها عن حقيقتها إلى مجازها.
والثالث: أن يكون المحل الذي أضيفت إليه الحقيقة أو المعنى الذي أضيفت إليه الحقيقة لا يصلح لها، فيفتقر إلى الانتقال عنها إلى مجازها.
فإن قالوا: إن إثبات اليد الحقيقية التي هي صفة لله تعالى ممتنع لعارض يمنع، فليس بصحيح؛ من جهة أن الباري تعالى ذات قابلة للصفات المساوية لها في الإثبات، فإن الباري تعالى في نفسه ذات ليست بجوهر ولا جسم ولا عرض، ولا ماهية له تعرف وتدرك وتثبت في شاهد العقل، ولا ورد ذكرها في نقل، وإذا ارتفع عنه إثبات الماهية، فالكمية والكيفية والجزئية والأبعاض والبعضية تتبع إثبات الماهية، وإذا كان الكل مرتفعا والمِثل بذلك ممتنعا. فالنفار من قولنا "يد" مع هذه الحال كالنفار من قولنا "ذات"، ومهما دفعوا به إثبات ذات مع ما وصفنا فهو سبيل إلى دفع يد؛ لأنه لا فرق عندنا بينهما في الإثبات، وإن عجزوا عن ذلك لثبوت الدليل القاطع الملزم للإقرار بالذات على ما هي عليه مما ذكرنا، فذاك هو الطريق إلى تعجيزهم عن نفي يد هي صفة تناسب الذات فيما ثبت لها من ذلك، وهذا ظاهر لازم لا محيد عنه.
وإن قالوا: من جهة أنه اقترن بها قرينة تدل على صلاحية نقلها عن حقيقتها إلى مجازها.
فذلك محال من جهات:
أحدها: أنا قد بيّنا أن إضافة الفعل إلى اليد على الإطلاق لا يكون إلا والمراد به يد الصفة، وهذا توكيد لإثبات الصفة الحقيقية، ومحال أن يجتمع مؤكد للحقيقة مع قرينة ناقلة عن الحقيقة.
والثانية: أن القرائن قد ذكرناها، وهو أنه إذا أريد باليد النعمة قال: لفلان عندي يد، فعندي قرينة تدل على النعمة، وإذا أريد بها القدرة قال: لفلان عليّ يد، فعليّ هي القرينة الدالة على القدرة، وكلاهما معدومان هاهنا.
والثالث: أن الخصم يدعي أن الداعي إلى ذلك ما يقتضيه الشاهد من إثبات العضو والجارحة والجسمية والبعضية والكمية والكيفية الداخل على جميع ذلك، فحصل مثل وشبيه. وقد بينا أن ذلك محال في حقه؛ لأن نسبة اليد إليه تعالى كنسبة الذات إليه على ما تقرر. فإذا ارتفع هذا بطل السبب المعارض للحقيقة النافي لإثباتها والموجب لإبدالها بالمجاز.
وإن قالوا: إن المحل الذي أضيفت إليه اليد وهو ذات الباري لا يصلح لإثبات اليد الحقيقة. فهذا محال من جهة أنا قد اتفقنا على أن ذات الباري تقبل إضافة الصفات الذاتية على سبيل الحقيقة كالوجود والذات والعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك من صفات الإثبات على ما قدمناه".
وقال أيضًا في كتابه إيضاح أصول الدين (ص: ٢٨١ - ٢٨٣) بعد ذكْره لإثبات صفة الوجه لله تعالى وبطلان تأويل الوجه بالذات: "قالوا: إذا حملتم الأمر على هذا الظاهر وبطل أن يراد بها إلا الوجه الذي هو صفة يستحقها الحي، فالوجه الذي يستحقه الحي وجه هو عضو وجارحة يشتمل على كمية تدل على الجزئية وصورة تثبت الكيفية، فإن كان هذا ظاهر الأوصاف الثابتة لله تعالى فهذا هو التجسيم بعينه، وإن كان ظاهر الأوصاف عندكم إثبات صفة تفارق في الماهية وتقارب فيما يستحق بمثله الاشتراك في الوصف، فهذا هو التشبيه بعينه، وقد ثبت بالدليل الجلي إبطال قول المجسمة والمشبهة، وما يؤدي إلى مثل قولهم فهو باطل.
قلنا: الظاهر ما كان متلقى من اللفظ على طريق المقتضي، وذلك مما يتداوله أهل الخطاب بينهم حتى ينصرف مطلقه عند الخطاب إلى ذلك عند من له أدنى ذوق ومعرفة بالخطاب العربي واللغة العربية، وهذا كما نقول في ألفاظ الجموع وأمثالها إن ظاهر اللفظ يقتضي العموم والاستغراق، وكما نقول في الأمر إن ظاهره الاستدعاء من الأعلى للأدنى يقتضي الوجوب، إلى أمثال ذلك مما يرجع فيه إلى الظاهر في المتعارف، فإذا ثبت هذا فلا شك ولا مرية على ما بينا أن الظاهر في إثبات صفة هي إذا أضيفت إلى مكان أريد بها الحقيقة أو أريد بها المجاز، فإنه لا ينصرف إلى وهم السامع أن المراد بها جميع الذات التي هي مقولة عليها، وهذا مما لا نزاع فيه.
والمقصود بهذا إبطال التأويل الذي يدعيه الخصم، فإذا ثبت هذا وجب أن يكون صفة خاصة، بمعنى لا يجوز أن يعبر بها عن الذات، ولا وُضعت لها لا على سبيل الحقيقة ولا على سبيل المجاز.
فأما قولهم: إذا ثبت أنها صفة إذا نُسبت إلى الحي ولم يعبر بها عن الذات، وجب أن تكون عضوا وجارحة ذات كمية وكيفية.
فهذا لا يلزم من جهة أنّ ما ذكروه ثبت بالإضافة إلى الذات في حق الحيوان المحدث، لا من خصيصة صفة الوجه، ولكن من جهة نسبة الوجه إلى جملة الذات فيما ثبت للذات من الماهية المركبة بكمياتها وكيفياتها وصورها، وذلك أمر أدركناه بالحس في جملة الذات، فكانت الصفات مساوية للذات في موضوعها بطريق أنها منها، ومنتسبة إليها نسبة الجزء إلى الكل.
فأما الوجه المضاف إلى الباري تعالى فإنا ننسبه إليه في نفسه نسبة الذات إليه، وقد ثبت أن الذات في حق الباري لا توصف بأنها جسم مركب يدخله الكمية، وتتسلط عليه الكيفية، ولا يعلم له ماهية، فالظاهر في صفته التي هي الوجه أنها كذلك لا يوصل لها إلى ماهية، ولا يوقف لها على كيفية، ولا تدخلها التجزئة المأخوذة من الكمية، لأن هذه إنما هي صفات الجواهر المركبة أجساما، والله يتنزه عن ذلك.
ولو جاز لقائل أن يقول ذلك في السمع والوجه والبصر وأمثال ذلك من صفات الذات لينتقل بذلك عن ظاهر الصفة منها إلى ما سواها بمثل هذه الأحوال الثابتة في المشاهدات، لكان في الحياة والعلم والقدرة أيضا كذلك، فإن العِلْم في الشاهد عرض قائم بقلب يثبت بطريق ضرورة أو اكتساب، وذلك غير لازم مثله في حق الباري لأنه مخالف للشاهد في الذاتية، وغير مشارك لها في إثبات ماهية، ولا مشارك لها في كمية ولا كيفية، وهذا كلام واضح جلي ...
وأما قولهم: إن ذلك يوجب إثبات الجوارح والأعضاء، فليس بصحيح من جهة أنّ الصفة في حق الحيوان المحدَث إنما سُميت جارحة من جهة أنه يكتسب بها ما لولا ثبوتها له لعدم الاكتساب، مع كونه محتاجا إليه، ولهذا سميت الحيوانات الصيودة كسباع الطير والبهائم جوارح لأنها تكتسب الصيود، والباري مستغن عن الاكتساب فلا يتصور استحقاقه لتسميته جارحة، مع عدم السبب الموجب للتسمية.
فأما تسمية الأعضاء فإنها تثبت في حق الحيوان المحدث لما تعينت له من الصفات الزائدة على تسمية الذات، لأن العضو عبارة عن الجزء، ولهذا نقول: عضيت المال أي جزأته وقسّمته، ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} أي قسموه، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه، وإذا كان العضو إنما هو مأخوذ من هذا، فالباري تعالى ليس بذي أجزاء يدخلها الجمع وتقبل التفرقة والتجزئة، فامتنع أن يستحق ما يسمى عضوا، فإذا ارتفع هذا بقي أنه تعالى ذات لا تشبه الذوات مستحقة للصفات المناسبة لها في جميع ما تستحقه، فإذا ورد القرآن وصحيح السنة في حقه بوصف تُلقي في التسمية بالقبول، ووجب إثباته له على ما يستحقه، ولا يُعدل به عن حقيقة الوصف؛ إذ ذاته تعالى قابلة للصفات. وهذا واضح بيّن لمن تأمله".