[٩٢ - قول العلامة مرعي الكرمي المقدسي (المتوفى: ١٠٣٣)]
قال مرعي الكرمي في أقاويل الثقات (ص: ٦٤ - ٦٥): "ومن العجب أنّ أئمتنا الحنابلة يقولون بمذهب السلف ويصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ومع ذلك فتجد من لا يحتاط في دينه ينسبهم للتجسيم ... وهم وإن أثبتوا ذلك متابعة للسلف لكنهم يقولون كما هو في كتب عقائدهم إنه تعالى ذات لا تشبه الذوات مستحقة للصفات المناسبة لها في جميع ما يستحقه.
قالوا: فإذا ورد القرآن وصحيح السنة في حقه بوصف تلقي في التسمية بالقبول، ووجب إثباته له على ما يستحقه، ولا يعدل به عن حقيقة الوصف؛ إذ ذاته تعالى قابلة للصفات اللائقة بها. قالوا فنصف الله تعالى بما وصف به نفسه ولا نزيد عليه، فإن ظاهر الأمر في صفاته سبحانه أن تكون ملحقة بذاته، فإذا امتنعت ذاته المقدسة من تحصيل معنى يشهد الشاهد فيه معنى يؤدي إلى كيفية، فكذلك القول فيما أضافه إلى نفسه من صفاته. هذا كلام أئمة الحنابلة، ولا خصوصية لهم في ذلك، بل هذا مذهب جميع السلف والمحققين من الخلف".
وقال أيضًا في أقاويل الثقات (ص: ٧٤): "قال الإمام فخر الدين: جميع الأعراض النفسانية أعني الرحمة والفرح والسرور والغضب والحياء والمكر والاستهزاء ونحو ذلك لها أوائل ولها غايات، مثاله الغضب، فإن أوله غليان دم القلب، وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب، بل على غايته أو غرضه الذي هو إرادة الإضرار ...
وللسلف أن يقولوا: إن هذه الأوصاف على ظاهرها، وهذا التعليل لا يستلزم أن يكون كذلك في حقه تعالى، كما أن العلم والقدرة والسمع والبصر تستلزم من النقص في حقنا ما يجب تنزيه الله تعالى عنه من جهة أنها أعراض ونحوه، فمذهب السلف أسلم لا سيما وقد نقل البخاري وغيره عن الفضيل بن عياض قدس الله روحه أنه قال: ليس لنا أن نتوهم في الله كيف هو؛ لأن الله عز وجل وصف نفسه فأبلغ فقال:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} السورة، فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه، فهذا النزول والضحك وهذه المباهاة وهذا الاطلاع كما شاء الله أن ينزل وكما شاء أن يباهي وكما شاء أن يضحك وكما شاء أن يطلّع، فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف، فإذا قال الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه. فقل: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء انتهى.
وقال بعض من انتصر لمذهب السلف ردا على الخلف: "جميع ما يُلزمونا به في الاستواء والنزول واليد والوجه والقدم والضحك والتعجب من التشبيه، نلزمهم به في الحياة والسمع والبصر والعلم، فكما لا يجعلونها أعراضا، كذلك نحن لا نجعلها جوارح ولا ما يوصف به المخلوق".
وقال أيضًا (ص: ٨٤ - ٨٦) أثناء الاحتجاج للقائلين بالجهة: "ويجد الناظر في النصوص الواردة عن الله ورسوله في ذلك نصوصا تشير إلى حقائق هذه المعاني، ويجد الرسول تارة قد صرح بها مخبرا بها عن ربه واصفا له بها، ومن المعلوم أنه عليه السلام كان يحضر في مجلسه الشريف العالم والجاهل، والذكي والبليد والأعرابي الجافي، ثم لا يجد شيئا يعقب تلك النصوص مما يصرفها عن حقائقها لا نصا و ظاهرا، كما تأولها بعض هؤلاء المتكلمين، ولم ينقل عنه عليه السلام أنه كان يحذر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفته لربه من الفوقية واليدين ونحو ذلك، ولا نُقل عنه أن لهذه الصفات معاني أخر باطنة غير ما يظهر من مدلولها، ولما قال للجارية: أين الله؟ فقالت: في السماء، لم ينكر عليها بحضرة أصحابه كي لا يتوهموا أن الأمر على خلاف ما هو عليه، بل أقرها، وقال: أعتقها فإنها مؤمنة إلى غير ذلك من الدلائل التي يطول ذكرها، ولم يقل الرسول ولا أحد من سلف الأمة يوما من الدهر هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه، وكيف يجوز على الله ورسوله والسلف أنهم يتكلمون دائما بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق، ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يتكلمون به ولا يدلون عليه".
وقال أيضًا (ص: ١٠٥): "واحتج القائل بأنه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه وأنه سبحانه لا متصلا به ولا منفصلا عنه بأمور عقلية، وهذا مذهب كثير من متأخري الأشاعرة ومن وافقهم، والعقل في هذا بمجرده لا اعتبار به ما لم يستند إلى النقل الصحيح".