للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

[٧٦ - قول الإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي (المتوفى: ٦٢٠)]

قال ابن قدامة في لمعة الاعتقاد (ص: ٤٥): "وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف رضي الله عنهم، كلهم متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات، لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله من غير تعرض لتأويله".

وقال أيضًا في لمعة الاعتقاد (ص: ٦٤) بعد أن ذكر صفات الله الواردة في القرآن وهي الوجه واليدين والنفس والمجيء والإتيان والرضى والمحبة والغضب والسخط، والصفات الواردة في السنة وهي النزول والضحك والعجب: "فهذا وما أشبهه مما صح سنده وعدلت رواته، نؤمن به ولا نرده ولا نجحده، ولا نتأوله بتأويل يخالف ظاهره (١)، ولا نشبهه بصفات المخلوقين ولا بسمات المحدثين".

وقال أيضًا في ذم التأويل (ص: ١١): "ومذهب السلف رحمة الله عليهم الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه التي وصف بها نفسه في آياته وتنزيله، أو على لسان رسوله، من غير زيادة عليها ولا نقص منها ولا تجاوز لها، ولا تفسير ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها، ولا تشبيه بصفات المخلوقين، ولا سمات المحدثين، بل أمرّوها كما جاءت، وردّوا علمها إلى قائلها ومعناها (٢)

إلى المتكلِّم بها.

وقال بعضهم: ويروى ذلك عن الشافعي رحمة الله عليه: آمنت بما جاء عن الله على مراد الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعلموا أنّ المتكلم بها صادق لا شك في صدقه فصدقوه، ولم يعلموا حقيقة معناها (٣)

فسكتوا عما لم يعلموه، وأخذ ذلك الآخر والأول".

وقال في إثبات صفة العلو (ص: ٦٣): "فإن الله تعالى وصف نفسه بالعلو في السماء، ووصفه بذلك محمد خاتم الأنبياء، وأجمع على ذلك جميع العلماء من الصحابة الأتقياء والأئمة من الفقهاء، وتواترت الأخبار بذلك على وجه حصل به اليقين، وجمع الله تعالى عليه قلوب المسلمين، وجعله مغروزا في طباع الخلق أجمعين، فتراهم عند نزول الكرب بهم يلحظون السماء بأعينهم، ويرفعون نحوها للدعاء أيديهم، وينتظرون مجيء الفرج من ربهم، وينطقون بذلك بألسنتهم لا ينكر ذلك إلا مبتدع غال في بدعته، أو مفتون بتقليده واتباعه على ضلالته".

وقال أيضًا في إثبات صفة العلو (ص: ٦٥): "وأخبر عن فرعون أنه قال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} يعني أظن موسى كاذبا في أن الله إلهه في السماء. والمخالف في هذه المسالة قد أنكر هذا، يزعم أن موسى كاذب في هذا بطريق القطع واليقين، مع مخالفته لرب العالمين، وتخطئته لنبيه الصادق الأمين، وتركه منهج الصحابة والتابعين والأئمة السابقين وسائر الخلق أجمعين".


(١) كلام ابن قدامة واضح في أنّ هناك معنى ظاهر من آيات وأحاديث صفات الله تعالى، فلا يُقبل التأويل المخالف لذلك المعنى الظاهر.
(٢) أي: حقيقة معناها، كما في نهاية قول ابن قدامة هذا حيث قال: "ولم يعلموا حقيقة معناها". وقال أيضًا قبل سطر: "ولا تفسير ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها"، فدل على أنّ هناك معنى ظاهر من آيات وأحاديث صفات الله تعالى.
ومما يؤكِّد أنّ المنفي حقيقة المعنى لا أصل المعنى أن كلام ابن قدامة عام في جميع أسماء الله وصفاته، ومعلوم أن الحياة والقدرة والسمع والبصر والعلم ونحوهالم يقل أحدٌ من مثبتي الصفات بتفويض المعنى فيها. فدل ذلك على أنّ المنفي هو حقيقة المعنى وهو الكُنه والكيفية.
وحقائق - أي: كُنه وكيفيات - صفات الله تعالى هي من التأويل الذي استأثر الله بعلمه. وهذا هو تفويض السلف.
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (١٣/ ٣١٢): "وأما التأويل الذي اختص الله به فحقيقة ذاته وصفاته كما قال مالك: والكيف مجهول. فإذا قالوا: ما حقيقة علمه وقدرته وسمعه وبصره؟ قيل: هذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله".
وقال الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء (٨/ ٥٠٩) عن آيات وأحاديث الصفات: "قراءتها وإمرارها على ما جاءت هو الحق، لا تفسير لها غير ذلك، فنؤمن بذلك، ونسكت اقتداء بالسلف، معتقدين أنها صفات لله تعالى، استأثر الله بعلم حقائقها، وأنهما لا تشبه صفات المخلوقين كما أن ذاته المقدسة لا تماثل ذوات المخلوقين".
والحافظ الذهبي – كما سيأتي، وكما تقدم عند قولي أبي جعفر الترمذي، وأبي أحمد القصاب- من القائلين بثبوت الصفات، وأنها لا تُحمل على المجاز، وأنها معلومة في الجملة، وأن الاستواء والوجه والنزول وغير ذلك من صفات الله تعالى عبارات جلية بيّنة واضحة للسامع، وأنّ السؤال عن معاني تلك الصفات عيٌّ؛ لأنّ السؤال إنما يكون عن كلمة غريبة في اللغة.
وقال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية (ص: ٨٠) بعد أن ذكر الصفات الفعلية الاختيارية ومنها الاستواء والإتيان والمجيء والنزول والغضب والرضا: "ونحو ذلك مما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، وإن كنا لا ندرك كنهه وحقيقته التي هي تأويله، ولا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، ولكن أصل معناه معلوم لنا".
(٣) تقدم في الهامش السابق أنّ حقائق – أي: كُنه وكيفيات- صفات الله هي مما استأثر الله بعلمه، وقد عبّر ابن قدامة بهذه العبارة في الإسراء والمعراج وأشراط الساعة وغير ذلك من أمور الغيب، مع كون جميع ذلك معلومًا، قال في لمعة الاعتقاد (ص: ١٣٤): "ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه، أو جهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه مثل حديث الإسراء والمعراج ... ومن ذلك أشراط الساعة مثل خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله وخروج يأجوج ومأجوج وخروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها وأشباه ذلك مما صح به النقل".
تنبيه: ذكر بعضهم أنّ موفق الدين ابن قدامة من المفوِّضة وليس من أهل الإثبات في صفات الله تعالى، وهذا غير صواب؛ وقد ذكرنا في الأصل من أقواله ما يدل على أنه من أهل الإثبات، وله مؤلّف في إثبات العلو، ومؤلَّف في إثبات الحرف، ومعلوم أنّ المفوضة لا يقولون بذلك.
ومن أقوى ما استدل به بعضهم على كون ابن قدامة من أهل التفويض هو قوله في لمعة الاعتقاد (ص: ٣٧ - ٣٨): "وكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل.
وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظا، وترك التعرض لمعناه، ونردّ علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله اتباعا لطريق الراسخين في العلم الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} ".
والجواب أنّ هذا النقل ظاهر في أنّ تفويض المعنى إنما يكون فيما أشكل من نصوص الصفات، فنصوص الصفات عند ابن قدامة قسمان:
الأول: ما يجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول.
الثاني: ما أشكل من نصوص الصفات، فيجب إثبات لفظه، وعدم التعرض لمعناه.
والقسم الأول يجب قبوله، ولا يتعرض لتأويله، بل يقبله بمعناه الظاهر، ولذلك نفى عنه التشبيه والتمثيل، ولا يُنفى التشبيه إلا بعد إثبات المعنى، فنفي التشبيه والتمثيل عما ليس بثابت لغو من القول.
وهذا القسم هو الغالب على نصوص الصفات، ولذلك قال: "وكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول"، وقد سبق أن ابن قدامة ذكر صفة النزول والضحك والعجب، ثم قال: "ولا نتأوله بتأويل يخالف ظاهره"، فأثبت له المعنى الظاهر، وبيّن أنه لا يُقبل التأويل المخالف لذلك الظاهر.
والقسم الثاني خاص بما أشكل من نصوص الصفات، ولذلك قال: "وما أشكل من ذلك"، فقد يكون العالم من أهل الإثبات لصفات الله في الأعم الغالب، ولكن قد يُشكل عليه بعض نصوص الصفات فيردّ علمها إلى قائلها.
وهذا لا إشكال فيه، فكم من إمام من الأئمة أشكل عليه نصٌ من نصوص الصفات فيثبته لفظا ولا يتعرض لمعناه، أو يؤول معناه، كما صنع إمام الأئمة ابن خزيمة في حديث الصورة حيث لجأ إلى تأويله، وقد كان ابن خزيمة رأسًا في السنة وفي إثبات صفات الله تعالى، وشجى في حلوق المعطلة كما هو ظاهر في كتابه التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل.
فابن قدامة يرى أنه لا يُلجأ إلى التأويل حتى فيما أشكل معناه، بل يُثبت لفظه ويتوقف في معناه.
وتفويض ما أشكل لا إشكال فيه كما قلنا، ولكن الشأن في أن يٌجعل ذلك منهجًا عامًا فيما سوى الصفات السبع أو الثمان بزعم أن ذلك يوهم التجسيم والتشبيه.
وثمت شيء آخر وهو أن موفق الدين ابن قدامة لا ينفي المعنى الظاهر حتى فيما أشكل من نصوص الصفات، بل يترك التعرض لمعناه ويرد علمه إلى قائله، بخلاف المفوضة، إذ إنهم ينفون المعنى الظاهر، ويقولون بأن ظواهر هذه النصوص غير مرادة، ثم يتوقَّفون عن تعيين المعنى المراد، فهم في الحقيقة قائلون بالتأويل في الجملة، وابن قدامة غير قائل بذلك، فنسبته إلى المفوضة غير دقيقة حتى فيما أشكل عليه من نصوص الصفات، مع أنّه في الأغلب مشى على مذهب أهل الإثبات، وله كما قلنا مؤلّف في إثبات العلو، ومؤلَّف في إثبات الحرف والصوت.

<<  <   >  >>