[٩٠ - قول الحافظ ابن رجب (المتوفى: ٧٩٥)]
قال الحافظ ابن رجب في فتح الباري (٥/ ٩٧) بعد أن ذكر صفة الإتيان والمجيء: "ولم يتأول الصحابة ولا التابعون شيئاً من ذلك، ولا أخرجوه عن مدلوله، بل روي عنهم [ما] يدل على تقريره والإيمان به وإمراره كما جاء ...
ومنهم [أي: الحنابلة] من يقر ذلك، ويمره كما جاء، ولا يفسره، ويقول: هو مجيء وإتيان يليق بجلال الله وعظمته سبحانه. وهذا هو الصحيح عن أحمد، ومن قبله من السلف، وهو قول إسحاق وغيره من الأئمة.
وكان السلف ينسبون تأويل هذه الآيات والأحاديث الصحيحة إلى الجهمية؛ لأن جهماً وأصحابه أول من أشتهر عنهم أن الله تعالى منزه عما دلت عليه هذه النصوص بأدلة العقول التي سموها أدلة قطعية هي المحكمات، وجعلوا ألفاظ الكتاب والسنة هي المتشابهات فعرضوا ما فيها على تلك الخيالات، فقبلوا ما دلت على ثبوته بزعمهم، وردوا ما دلت على نفيه بزعمهم، ووافقهم على ذلك سائر طوائف أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم.
وزعموا أن ظاهر ما يدل عليه الكتاب والسنة تشبيه وتجسيم وضلال، واشتقوا من ذلك لمن آمن بما أنزل الله على رسوله أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، بل هي افتراء على الله، ينفرون بها عن الإيمان بالله ورسوله.
وزعموا أن ما ورد في الكتاب والسنة من ذلك - مع كثرته وانتشاره - من باب التوسع والتجوز، وأنه يحمل على مجازات اللغة المستبعدة، وهذا من أعظم أبواب القدح في الشريعة المحكمة المطهرة، وهو من جنس حمل الباطنية نصوص الإخبار عن الغيوب كالمعاد والجنة والنار على التوسع والمجاز دون الحقيقة، وحملهم نصوص الأمر والنهي على مثل ذلك، وهذا كله مروق عن دين الإسلام.
ولم ينه علماء السلف الصالح وأئمة الإسلام كالشافعي وأحمد وغيرهما عن الكلام وحذروا عنه إلا خوفاً من الوقوع في مثل ذلك، ولو علم هؤلاء الأئمة أن حمل النصوص على ظاهرها كفر لوجب عليهم تبيين ذلك وتحذير الأمة منه؛ فإن ذلك من تمام نصيحة المسلمين، فكيف كان ينصحون الأمة فيما يتعلق بالأحكام العملية ويدعون نصيحتهم فيما يتعلق بأصول الاعتقادات! هذا من أبطل الباطل".
وقال أيضًا (٥/ ٩٩): "وقد صح عن ابن عباس أنه أنكر على من استنكر شيئاً من هذه النصوص وزعم أن الله منزه عما تدل عليه".
وقال أيضًا (٥/ ١٠٠): "وقد قال الخطابي في الأعلام: مذهب السلف في أحاديث الصفات: الإيمان، وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها.
ومن قال: الظاهر منها غير مراد، قيل له: الظاهر ظاهران:
ظاهر يليق بالمخلوقين ويختص بهم، فهو غير مراد.
وظاهر يليق بذي الجلال والإكرام، فهو مراد، ونفيه تعطيل. ولقد قال بعض أئمة الكلام والفلسفة من شيوخ الصوفية، الذي يحسن به الظن المتكلمون: إن المتكلمين بالغوا في تنزيه الله عن مشابهة الأجسام، فوقعوا في تشبيهه بالمعاني، والمعاني محدثة كالأجسام، فلم يخرجوا عن تشبيهه بالمخلوقات. وهذا كله إنما أتى من ظن أن تفاصيل معرفة الجائز على الله والمستحيل عليه يؤخذ من أدلة العقول، ولا يؤخذ مما جاء به الرسول.
وأما أهل العلم والإيمان، فيعلمون أن ذلك كله متلقى مما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن ما جاء به من ذلك عن ربه فهو الحق الذي لا مزيد عليه، ولا عدول عنه، وأنه لا سبيل لتلقي الهدى إلا منه، وأنه ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله الصحيحة ما ظاهرة كفر أو تشبيه، أو مستحيل، بل كل ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله، فإنه حق وصدقٍ، يجب اعتقاد ثبوته مع نفي التمثيل عنه، فكما أن الله ليس كمثله شيء في ذاته، فكذلك في صفاته".
وقال أيضًا (٥/ ١٠٢): "ومن جملة صفات الله التي نؤمن بها، وتمر كما جاءت عندهم قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ والْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ} ونحو ذلك مما دل على إتيانه ومجيئه يوم القيامة. وقد نص على ذلك أحمد وإسحاق وغيرهما. وعندهما أن ذلك من أفعال الله الاختيارية التي يفعلها بمشيئته واختياره. وكذلك قاله الفضيل بن عياض وغيره من مشايخ الصوفية أهل المعرفة. وقد ذكر حرب الكرماني أنه أدرك على هذا القول كل من أخذ عنه العلم في البلدان، سمى منهم أحمد وإسحاق والحميدي وسعيد بن منصور".
وقال أيضًا (٥/ ١٠٥ - ١٠٦): "فأهل العلم وإلايمان يمتثلون في هذه الشبهات [أي: القواعد العقلية التي يدعي أصحابها أنها قطعيات] ما أُمروا به من الاستعاذة بالله، والانتهاء عما ألقاه الشيطان، وقد جعل النبي ذلك من علامات الإيمان، وغيرهم فيصغون إلى تلك الشبهات، ويعبرون عنها بألفاظ مشتبهات، لا حرمة لها في نفسها، وليس لها معنىً يصح، فيجعلون تلك الألفاظ محكمة لا تقبل التأويل، فيردون كلام الله ورسوله إليها، ويعرضونه عليها، ويحرفونه عن مواضعه لأجلها.
هذه طريقة طوائف أهل البدع المحضة من الجهمية والخوارج والروافض والمعتزلة ومن أشبههم، وقد وقع في شيء من ذلك كثير من المتأخرين المنتسبين إلى السنة من أهل الحديث والفقه والتصوف من أصحابنا وغيرهم في بعض الأشياء دون بعض.
وأما السلف وأئمة أهل الحديث فعلى الطريقة الأولى، وهي الإيمان بجميع ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أثبته له، مع نفي التمثيل والكيفية عنه، كما قاله ربيعة ومالك وغيرهما من أئمة الهدى في الاستواء، وروي عن أم سلمة أم المؤمنين، وقال مثل ذلك غيرهم من العلماء في النزول، وكذلك القول في سائر الصفات، والله سبحانه وتعالى الموفق".
وقال أيضًا في فضل علم السلف على الخلف (ص: ٤): "والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تفسير لها ولا تكييف ولا تمثيل".