للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

[٥٨ - قول شيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني (المتوفى: ٤٤٩)]

قال أبو عثمان الصابوني في عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص: ١٦٠ - ١٦٥): "أصحاب الحديث، حفظ الله أحياءهم ورحم أمواتهم، يشهدون لله تعالى بالوحدانية، وللرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة والنبوة، ويعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسوله

صلى الله عليه وسلم على ما وردت الأخبار الصحاح به، ونقلته العدول الثقات عنه، ويثبتون له جل جلاله ما أثبت لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يعتقدون تشبيها لصفاته بصفات خلقه، فيقولون: إنه خلق آدم بيده، كما نص سبحانه عليه في قوله عز من قائل: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ولا يحرفون الكلام عن مواضعه بحمل اليدين على النعمتين، أو القوتين، تحريف المعتزلة الجهمية، أهلكهم الله، ولا يكيفونهما بكيف أو شبهها بأيدي المخلوقين تشبيه المشبهة، خذلهم الله، وقد أعاذ الله تعالى أهل السنة من التحريف والتكييف، ومنّ عليهم بالتعريف والتفهيم، حتى سلكوا سبل التوحيد والتنزيه، وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه، واتبعوا قول الله عز وجل: {ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ...

وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصحاح من السمع والبصر والعين والوجه والعلم والقوة والقدرة والعزة والعظمة والإرادة والمشيئة والقول والكلام والرضا والسخط والحياة واليقظة والفرح والضحك وغيرها من غير تشبيه لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين، بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله تعالى وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة عليه ولا إضافة إليه ولا تكييف له ولا تشبيه ولا تحريف ولا تبديل ولا تغيير، ولا إزالة للفظ الخبر عما تعرفه العرب وتضعه عليه، بتأويل منكر يُستنكر، ويجرونه على الظاهر، ويكلون علمه (١)

إلى الله تعالى، ويقرون بأن تأويله لا يعلمه إلا الله".

وقال أيضًا (ص: ١٧٥): "ويعتقد أهل الحديث ويشهدون أن الله سبحانه وتعالى فوق سبع سموات على عرشه مستو كما نطق به كتابه ...

وأخبر الله سبحانه عن فرعون اللعين أنه قال لهامان: {ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} وإنما قال ذلك لأنه سمع موسى عليه السلام يذكر أن ربه في السماء, ألا ترى إلى قوله: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} يعني في قوله إن في السماء إلها, وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف رحمهم الله لم يختلفوا في أن الله تعالى على عرشه, وعرشه فوق سماواته. يثبتون له من ذلك ما أثبته الله تعالى، ويؤمنون به، ويصدقون الرب جل جلاله في خبره".

وقال (ص: ١٩١ - ١٩٢): "ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا من غير تشبيه له بنزول المخلوقين ولا تمثيل ولا تكييف، بل يثبتون ما أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينتهون فيه إليه، ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله.

وكذلك يثبتون ما أنزله الله عز اسمه في كتابه من ذكر المجيء والإتيان المذكورين في قوله عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ}، وقوله عز اسمه: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} ".

وقال أيضًا (ص: ٢٣٢): "فلما صح خبر النزول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقرّ به أهل السنة، وقبلوا الخبر، وأثبتوا النزول على ما قاله الرسول- صلى الله عليه وسلم-، ولم يعتقدوا فيه تشبيهاً له بنزول خلقه، ولم يبحثوا عن كيفيته؛ إذ لا سبيل إليها بحال".


(١) أي: علم كُنه وحقائق هذه الصفات، وليس المراد تفويض أصل المعنى، فقد سبق في كلامه ما هو واضح في إثبات معاني الصفات، وأن أهل الحديث لا يُزيلون لفظ الخبر عما تعرفه العرب وتضعه عليه، وأنّ الله منّ عليهم بالتعريف والتفهيم.
ويؤكد ما قلناه أنّ كلام أبي عثمان الصابوني عام في جميع الصفات، وذكَرَ من جملة الصفات العلم والقدرة والسمع والبصر، وهذه الصفات لا يُفوَّض أصل المعنى فيها عند جميع مثبتي صفات الله تعالى.
ومما ينبغي التنبيه عليه أنّ مما يُستعان به على معرفة مراد المتكِّلم هو جمع كلامه، وتفسير بعضه ببعض، ومعرفة عادته في ألفاظه ومعانيه، فلا يُحمل لفظه وكلامه على خلاف ما جرت عادته باستعماله فيه، بل يحمل على ما يتفق مع سائر كلامه حتى لا يكون متناقضًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الجواب الصحيح (٤/ ٤٤): "يجب أن يفسَّر كلام المتكلّم بعضه ببعض، ويؤخذ كلامه هاهنا وهاهنا، وتعرف ما عادته يعينه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلّم به، وتعرّف المعاني التي عرف أنه أرادها في موضع آخر، فإذا عرف عرفه وعادته في معانيه وألفاظه كان هذا مما يستعان به على معرفة مراده.
وأما إذا استعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه وترك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه، وحمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عرف أنه يريده بذلك اللفظ بجعل كلامه متناقضا، وترك حمله على ما يناسب سائر كلامه، كان ذلك تحريفا لكلامه عن موضعه وتبديلا لمقاصده وكذبا عليه".

<<  <   >  >>