للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

[٤٧ - قول الإمام أبي سليمان الخطابي (المتوفى: ٣٨٨)]

قال الخطابي في كتابه الغنية عن الكلام وأهله كما في الأربعين في صفات رب العالمين للذهبي (ص: ٩٣): "فأما ما سألت عنه من الصفات وما جاء منها في الكتاب والسنة، فإن مذهب السلف إثباتها، وإجراؤها على ظواهرها (١)،

ونفي الكيفية والتشبيه عنها ...

والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان معلوما أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف.

فإذا قلنا: يد وسمع وبصر وما أشبهها، فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه، ولسنا نقول: إن معنى اليد القوة أو النعمة، ولا معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول: إنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل.

ونقول: إن القول إنما وجب بإثبات الصفات؛ لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها؛ لأن الله ليس كمثله شيء، وعلى هذا جرى قول السلف في أحاديث الصفات".


(١) ذكر بعضهم أن الإمام الخطابي يقصد ظاهر اللفظ لا المعنى، وهذا غير صحيح لعدة أوجه:
الأول: أن الإمام الخطابي حكى عن السلف إثبات صفات الله تعالى الواردة في الكتاب والسنة، وهو – قطعاً – لم يقصد إثبات ألفاظ نصوص الصفات فقط؛ إذ لا مخالف في إثبات ألفاظ الصفات الواردة في القرآن الكريم، بل مَن جحد كلمةً من القرآن متفقًا عليها فهو كافر بإجماع المسلمين وليس مبتدعًا فقط، فدل ذلك على أن المراد إثبات ما دلّت عليه نصوص الصفات.
الثاني: أن الإمام الخطابي - بعد أن حكى عن السلف إجراء الصفات على ظواهرها - نَفى الكيفية والتشبيه عنها، ولا يُحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يُفهم عن اللفظ معنى، وإنما يُحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات، فنفي الكيفية والتشبيه عما ليس بثابت لغو من القول.
الثالث: أن الإمام الخطابي جعل إثبات الصفات كإثبات الذات، ومعلوم أن إثبات الذات ليس المقصود منه إثبات لفظ "الذات" فقط، فكذلك الصفات، قال رحمه الله: "والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان معلوما أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف.
الرابع: أن كلام الإمام الخطابي عام في جميع صفات الله تعالى، وليس خاصًا بما عدا الصفات السبع، ولذلك قال: "فأما ما سألت عنه من الصفات وما جاء منها في الكتاب والسنة ... إلخ".
ويؤيد ذلك أيضًا أنه قرن بين اليد والسمع والبصر، حيث قال: "فإذا قلنا: يد وسمع وبصر وما أشبهها، فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه، ولسنا نقول: إن معنى اليد القوة أو النعمة، ولا معنى السمع والبصر العلم".
ولم يقل أحد من مثبتي الصفات بأن السمع والبصر وبقية الصفات السبع تُجرى على ظاهر لفظها من دون إثبات معانيها. بل الجميع يقول بإثبات معانيها، فكذلك بقية الصفات.
وأما ما ذكره بعضهم من أنّ المراد إجراء نصوص الصفات على ظواهر ألفاظها من دون إثبات معانيها، واستدل على ذلك بقول الخطابي في أعلام السنن في شرح صحيح البخاري (٣/ ١٩٣٠) بعد أن ذكر حديث «يكشف ربنا عن ساقه»: " قلت: وهذا الحديث مما قد تهيب القول فيه شيوخنا، فأجروه على ظاهر لفظه، ولم يكشفوا عن باطن معناه".
فهذا إنما ذكره مَن لم يحط علمًا بمذهب الإمام الخطابي فيما يتعلق بصفات الله تعالى، فالإمام الخطابي لم يجرِ على مذهب السلف في جميع الصفات، بل قسمها إلى قسمين:
الأول: ما كان من الصفات مذكورا في القرآن أو في السنة المتواترة، أو في الآحاد مع وجود أصل له في القرآن، أو له تعلق ببعض معاني ما في القرآن، فإنه يُثبته على ظاهره من دون تكييف، ويرى أنّ إثباته على الظاهر لا يفضي إلى التشبيه، وذلك مثل الوجه واليد والعين.
الثاني: ما كان من الصفات ثابتًا بطريق الآحاد، وليس له أصل في الكتاب ولا في السنة المتواترة، فإنه يجريه على ظاهر لفظه، ويرى أن هذه الأسماء لا يراد بها إثبات المعاني الحقيقية، ويرى أنّ القول فيها بالظاهر يُفضي إلى التشبيه، وذلك مثل حديث الساق وحديث القدم.
وهذا التقسيم ليس مأخوذًا باستقراء وتتبع أقوال الإمام الخطابي من مؤلفاته، بل صرح هو بذلك، حيث قال في أعلام السنن في شرح صحيح البخاري (٣/ ١٩١١) بعد أن ذكر حديث «فأما النار فلا تمتلئ فيضع قدمه عليها» قال: "وذِكْرُ القدم ههنا يحتمل أن يكون المراد به: من قدمهم الله للنار من أهلها، فيقع بهم استيفاء عدد أهل النار. وكل شيء قدمته فهو قدم ... قد تأول بعضهم الرِّجْل على نحو من هذا ...
وفيه وجه آخر: وهو أن هذه الأسماء أمثال يراد بها إثبات معان لا حظّ لظاهر الأسماء فيها من طريق الحقيقة، وإنما أُريد بوضع الرِّجْل عليها نوع من الزجر لها والتسكين من غربها كما يقول القائل للشيء يريد محوه وإبطاله: جعلته تحت رجلي، ووضعته تحت قدمي ...
فإن قيل: فهلا تأولت اليد والوجه على هذا النوع من التأويل، وجعلت الأسماء فيهما أمثالا كذلك؟
قيل: إن هذه الصفات مذكورة في كتاب الله عز وجل بأسمائها، وهي صفات مدح، والأصل أن كل صفة جاء بها الكتاب أو صحت بأخبار التواتر، أو رويت من طريق الآحاد وكان لها أصل في الكتاب، أو خُرِّجت على بعض معانيه، فإنا نقول بها ونجريها على ظاهرها من غير تكييف.
وما لم يكن له منها في الكتاب ذكر، ولا في التواتر أصل، ولا له بمعاني الكتاب تعلق، وكان مجيئه من طريق الآحاد وأفضى بنا القول إذا أجريناه على ظاهره إلى التشبيه، فإنا نتأوله على معنى يحتمله الكلام ويزول معه معنى التشبيه، وهذا هو الفرق بين ما جاء من ذكر القدم والرجل والساق، وبين اليد والوجه والعين، وبالله العصمة".
فقول الإمام الخطابي هذا صريح في أن القدم والساق من القسم الثاني، أي: مما يُثبت لفظه فقط دون معناه الحقيقي، ويرى أن تلك الأسماء إنما هي أمثال، لا حظّ لظاهر الأسماء فيها من طريق الحقيقة، وهذا ظاهر أنّ ما كان من القسم الأول كاليد والوجه والعين ليست أمثالاً، بل لظاهر الأسماء فيها حظٌّ من طريق الحقيقة، ولذلك قال بأنه يُجريها على ظاهرها- أي: ظاهر معناها- من غير تكييف.
أما القسم الثاني فذكر أن إجرائه على ظاهره يفضي إلى التشبيه، وهذا ظاهرٌ جدًا في أنّ المراد ظاهر معناها؛ إذ مجرد إمرار لفظها فقط لا يُخشى منه محذور اتفاقًا.
ومن القسم الثاني عند الإمام الخطابي حديث الساق، ولذلك حكى عن شيوخه أنهم أجروه على ظاهر لفظه، كما هو مذهب المفوّضة، وليس هذا مذهب السلف، ولم يحكه الإمام الخطابي عنهم، وإنما حكاه عن شيوخه.
مع أن الإمام الخطابي لم يقتنع بالتفويض فيما كان من هذا القسم؛ لأنه لا يتضمن إثبات معاني لتلك النصوص، فاختار لنفسه مذهب التأويل، وقد سبق تأويله لحديث القدم، وأوّل حديث الساق أيضًا كما في الأسماء والصفات للبيهقي (٢/ ١٨٦ - ١٨٧) حيث قال: "قال أبو سليمان رحمه الله: "فإنما جاء ذكر الكشف عن الساق على معنى الشدة، فيحتمل والله أعلم أن يكون معنى الحديث أنه يبرز من أمر القيامة وشدتها ما ترتفع معه سواتر الامتحان، فيميز عند ذلك أهل اليقين والإخلاص، فيؤذن لهم في السجود، وينكشف الغطاء عن أهل النفاق فتعود ظهورهم طبقا لا يستطيعون السجود ... إلخ".
وهذا مما يؤخذ على الإمام الخطابي حيث جرى في هذه الصفات – القدم والساق- على مذهب التأويل، وليس هذا قطعًا مذهب السلف، وليس مذهبهم أيضًا تقسيم الصفات إلى القسمين السابقين اللذين ذكرهما، بل ذلك التقسيم لم يُعرف عن أحدٍ من الأئمة ممن سبقه، ومذهب السلف عدم التفريق بين صفات الله تعالى، وإثبات كل ما صح من الصفات على الوجه اللائق بجلال الله تعالى من دون مشابهة المخلوقات.

<<  <   >  >>