[٨٧ - قول الحافظ ابن القيم (المتوفى: ٧٥١)]
قال ابن القيم في مدارج السالكين (٢/ ٨٥ - ٨٦): "حفظ حرمة نصوص الأسماء والصفات بإجراء أخبارها على ظواهرها، وهو اعتقاد مفهومها المتبادر إلى أذهان العامة، ولا يعني بالعامة الجهال بل عامة الأمة كما قال مالك رحمه الله ...
ففرَّق بين المعنى المعلوم من هذه اللفظة، وبين الكيف الذي لا يعقله البشر، وهذا الجواب من مالك رضي الله عنه شاف عام في جميع مسائل الصفات.
فمن سأل عن قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} كيف يسمع ويرى؟ أجيب بهذا الجواب بعينه، فقيل له: السمع والبصر معلوم، والكيف غير معقول.
وكذلك من سأل عن العلم والحياة والقدرة والإرادة والنزول والغضب والرضى والرحمة والضحك وغير ذلك، فمعانيها كلها مفهومة، وأما كيفيتها فغير معقولة؛ إذ تعقّل الكيفية فرع العلم بكيفية الذات وكنهها، فإذا كان ذلك غير معقول للبشر فكيف يعقل لهم كيفية الصفات" (١).
وقال في اجتماع الجيوش الإسلامية (ص: ١٣٧) بعد ذكره لكلام الإمام الحميدي شيخ البخاري: "ونقول: الرحمن على العرش استوى، ومن زعم غير هذا فهو مبطل جهمي" قال: "وليس مقصود السلف بأن مَن أنكر لفظ القرآن يكون جهميا مبتدعا فإنه يكون كافرا زنديقا، وإنما مقصودهم من أنكر معناه وحقيقته".
وقال أيضًا كما في مختصر الصواعق المرسلة (ص: ٣٨٥): "الوجه الرابع والثلاثون: أن نقل معنى الاستواء وحقيقته كنقل لفظه بل أبلغ، فإن الأمة كلها تعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن ربه بأنه استوى على عرشه، من يحفظ القران منهم ومن لا يحفظه، وهذا المعنى عندهم -كما قال مالك وأئمة السنة: الاستواء معلوم- غير مجهول، كما أن معنى السمع والبصر والقدرة والحياة والإرادة وسائر ما أخبر به عن نفسه معلوم، وإن كانت كيفيته غير معلومة للبشر، فإنهم لم يخاطبوا بالكيفية ولم يرد منهم العلم بها، فإخراج الاستواء عن حقيقته المعلومة كإنكار ورود لفظه بل أبلغ، وهذا مما يعلم أنه مناقض لما أخبر الله به ورسوله، يوضحه:
الوجه الخامس والثلاثون: أن اللفظ إنما يراد لمعناه ومفهومه، فهو المقصود بالذات واللفظ مقصود قصد الوسائل والتعريف بالمراد، فإذا انتفى المعنى وكانت إرادته محالا لم يبق في ذكر اللفظ فائدة، بل كان تركه أنفع من الإتيان به، فإن الإتيان به إنما حصل منه إيهام المحال والتشبيه وأوقع الأمة في اعتقاد الباطل، ولا ريب أن هذا إذا نُسب إلى آحاد الناس كان ذمه أقرب من مدحه، فكيف يليق نسبته إلى من كلامه هدى وشفاء وبيان ورحمة، هذا من أمحل المحال.
الوجه السادس والثلاثون: أن ظاهر الاستواء وحقيقته هو العلو والارتفاع كما نص عليه جميع أهل اللغة وأهل التفسير المقبول، وقد صرح المنكرون للاستواء بأن الله لا يجوز أن يتكلم بشيء ويعني به خلاف ظاهره، كما قال صاحب المحصول وغيره، وهذا لفظه "لا يجوز أن يتكلم الله بشيء ويعني به خلاف ظاهره" والخلاف مع المرجئة، ثم احتج على ذلك بأنه عبث وهو على الله محال.
والذي احتج به على المرجئة يحتج به عليه أهل السنة بعينه، وهذا الذي قاله هو الحق وهو ما اتفق عليه العقلاء، فلا يجوز أن يتكلم الله بشيء ويريد به خلاف ظاهره إلا وفي السياق ما يدل على ذلك، بخلاف المجمل فإنه يجوز عندهم أن يتكلم به لأنه لم يرد به خلاف ظاهره، والفرق بينهما إيقاع الأول في اللبس واعتقاد الخطأ بخلاف المجمل، فكيف إذا كان مع ظاهره من القرآن ما ينفي إرادة غيره، فدعوى إرادة غير الظاهر حينئذ ممتنع من الوجهين".
وقال أيضًا في الصواعق المرسلة (٣/ ٩٢٤): "قال ابن الماجشون والإمام أحمد وغيرهما من السلف: إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه، وإن كنا نعلم تفسيره ومعناه. وقد فسر الإمام أحمد الآيات التي احتج بها الجهمية من المتشابه، وقال إنهم تأولوها على غير تأويلها، وبيَّنَ معناها، وكذلك الصحابة والتابعون فسروا القرآن وعلموا المراد بآيات الصفات كما علموا المراد من آيات الأمر والنهي وإن لم يعلموا الكيفية، كما علموا معاني ما أخبر الله به في الجنة والنار وإن لم يعلموا حقيقة كنهه وكيفيته".
وقال في مدارج السالكين (٣/ ٣٣٥): "العقل قد يئس من تعرّف كنه الصفة وكيفيتها، فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله، وهذا معنى قول السلف بلا كيف أي بلا كيف يعقله البشر، فإن من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته، كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته! ولا يقدح ذلك في الإيمان بها، ومعرفة معانيها، فالكيفية وراء ذلك، كما أنا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم الآخر، ولا نعرف حقيقة كيفيته، مع قرب ما بين المخلوق والمخلوق، فعجزنا عن معرفة كيفية الخالق وصفاته أعظم وأعظم".
وقال كما في مختصر الصواعق المرسلة (ص: ٣٢): "فإن المعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات فيكون ردها من باب تحريف الكلم عن مواضعه، ولا يترك تدبرها ومعرفتها فيكون ذلك مشابهة للذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، بل هي آيات بينات دالة على أشرف المعاني وأجلها، قائمة حقائقها في صدور الذين أوتوا العلم والإيمان، إثباتا بلا تشبيه، وتنزيها بلا تعطيل، كما قامت حقائق سائر صفات الكمال في قلوبهم كذلك، فكان الباب عندهم بابا واحدا، وعلموا أن الصفات حكمها حكم الذات، فكما ذاته لا تشبه الذوات فكذا صفاته لا تشبه الصفات".
وقال في إعلام الموقعين عن رب العالمين (١/ ٣٩): "وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام، وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانا، ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمة واحدة، من أولهم إلى آخرهم، لم يسوموها تأويلا، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلا، ولم يبدوا لشيء منها إبطالا، ولا ضربوا لها أمثالا، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها، ولم يقل أحد منهم يجب صرفها عن حقائقها وحملها على مجازها، بل تلقوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، وجعلوا الأمر فيها كلها أمرا واحدا، وأجروها على سنن واحد، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع حيث جعلوها عضين، وأقروا ببعضها وأنكروا بعضها من غير فرقان مبين، مع أن اللازم لهم فيما أنكروه كاللازم فيما أقروا به وأثبتوه".
(١) قال الملا علي القاري في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (٧/ ٢٧٧٩) بعد ذكره لكلام ابن القيم هذا: "انتهى كلامه، وتبين مرامه، وظهر أن معتقده موافق لأهل الحق من السلف وجمهور الخلف، فالطعن الشنيع والتقبيح الفظيع [يشير إلى تشنيع ابن حجر الهيتمي على ابن القيم وشيخه ابن تيمية] غير موجه عليه ولا متوجه إليه، فإن كلامه بعينه مطابق لما قاله الإمام الأعظم، والمجتهد الأقدم في فقهه الأكبر ما نصه: "وله تعالى يد ووجه ونفس، فما ذكر الله في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف، ولا يقال إن يده قدرته أو نعمته ; لأن فيه إبطال الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفته بلا كيف، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف".