للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِلَّهِ، بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَتَّصِفُ بِذَلِكَ إِلَّا مَنْ كَانَ رَاسِخَ الْقَدَمِ فِي الْإِيمَانِ بِالْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَأَمَرَ بِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. ومعنى: آمنوا دوموا عَلَى الْإِيمَانِ قَالَهُ:

الْحَسَنُ، وَهُوَ أَرْجَحُ. لِأَنَّ لَفْظَ الْمُؤْمِنِ مَتَى أُطْلِقَ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْمُسْلِمَ. وَقِيلَ: لِلْمُنَافِقِينَ أَيْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ بِأَلْسِنَتِهِمْ آمِنُوا بِقُلُوبِكُمْ. وَقِيلَ: لِمَنْ آمَنَ بِمُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَيْ: يَا مَنْ آمَنَ بِنَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: هُمْ جَمِيعُ الْخَلْقِ أَيْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يَوْمَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ حِينَ قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «١» . وَقِيلَ:

الْيَهُودُ خَاصَّةً. وَقِيلَ: الْمُشْرِكُونَ آمَنُوا بِاللَّاتَ وَالْعُزَّى وَالْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ. وَقِيلَ: آمَنُوا عَلَى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ، آمِنُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ. وَقِيلَ: آمَنُوا فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ، آمِنُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَنَظِيرُهُ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ «٢» مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ.

وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ، وَسَلَّامًا ابْنَ أُخْتِهِ، وَسَلَمَةَ ابْنَ أخيه، وأسد وَأُسَيْدًا ابْنَيْ كَعْبٍ، وَثَعْلَبَةَ بْنَ قَيْسٍ وَيَامِينَ، أَتَوُا الرسول صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا: نُؤْمِنُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ، وَمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ، وَعُزَيْرٍ، وَنَكْفُرُ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «بَلْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ الْقُرْآنِ وَبِكُلِّ كِتَابٍ كَانَ قَبْلَهُ» فَقَالُوا: لَا نَفْعَلُ، فَنَزَلَتْ فَآمَنُوا كُلُّهُمْ.

وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ هُوَ الْقُرْآنُ بِلَا خِلَافٍ، وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ الْمُرَادُ بِهِ جِنْسُ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: آخَرًا. وَكَتَبَهُ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَكَيْفَ قِيلَ لَهُمْ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ؟ وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِمَا فَحَسْبُ، وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِكُلِّ مَا أَنْزَلَ مِنَ الْكُتُبِ، فَأُمِرُوا أَنْ يُؤْمِنُوا بِجَمِيعِ الْكُتُبِ. أَوْ لِأَنَّ إِيمَانَهُمْ بِبَعْضٍ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ طَرِيقَ الْإِيمَانِ بِالْجَمِيعِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُعْجِزَةُ. وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ وَابْنُ كَثِيرٍ:

نُزِّلَ وأنزل بِالْبَنَّاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْبَاقُونَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ قَالَ نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَأَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ؟ (قُلْتُ) : لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً بِخِلَافِ الْكُتُبِ قَبْلَهُ انْتَهَى. وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ بين نزل وأنزل لَا تَصِحُّ، لِأَنَّ التَّضْعِيفَ فِي نَزَّلَ لَيْسَ لِلتَّكْثِيرِ وَالتَّفْرِيقِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلتَّعْدِيَةِ، وَهُوَ مُرَادِفٌ لِلْهَمْزَةِ. وَقَدْ أَشْبَعْنَا الرَّدُّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ فِي دَعْوَاهُ ذَلِكَ أَوَّلَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.

وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً جَوَابُ الشَّرْطِ لَيْسَ مُتَرَتِّبًا عَلَى الْكُفْرِ بِالْمَجْمُوعِ، بَلِ الْمَعْنَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقُرِئَ:

وَكِتَابِهِ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَالْمُرَادُ جِنْسُ الْكُتُبِ. وَلَمَّا كَانَ خَيْرَ الْإِيمَانِ علق بثلاثة: بالله،


(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٧٢.
(٢) سورة محمد: ٤٧/ ١٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>