وَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ الْمُطَوَّلِ أَنَّ غَافِرِ الذَّنْبِ وما عطف عليه وشديد الْعِقَابِ أَوْصَافٌ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْوَصْفِ وَصْفٌ، وَالْجَمِيعُ مَعَارِفُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ أَوْ أَبِدَالٌّ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْبَدَلِ بَدَلٌ لِتَنْكِيرِ الجميع. أو غافر وقابل وصفان، وشديد بَدَلٌ لِمَعْرِفَةٍ ذَيْنِكَ وَتَنْكِيرِ شَدِيدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا بَالُ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: وَقابِلِ التَّوْبِ؟ قُلْتُ:
فِيهَا نُكْتَةٌ جَلِيلَةٌ، وَهِيَ إِفَادَةُ الْجَمْعِ لِلْمُذْنِبِ التَّائِبِ بَيْنَ رَحْمَتَيْنِ، بَيْنَ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَتَهُ فَيَكْتُبَهَا لَهُ طَاعَةً مِنَ الطَّاعَاتِ، وَأَنْ يَجْعَلَهَا مَحَّاءَةً لِلذُّنُوبِ، كَأَنْ لَمْ يُذْنِبْ، كَأَنَّهُ قَالَ: جَامِعُ الْمَغْفِرَةِ وَالْقَبُولِ. انْتَهَى. وَمَا أَكْثَرَ تَلَمُّحَ هَذَا الرَّجُلِ وَشَقْشَقَتَهُ، وَالَّذِي أَفَادَ أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ مِنَ ظَاهِرِ عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغُنْيَانِ: وَإِنَّمَا عَطَفَ لِاجْتِمَاعِهِمَا وَتَلَازُمِهِمَا وَعَدَمِ انْفِكَاكِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، وَقُطِعَ شَدِيدِ الْعِقَابِ عَنْهُمَا فَلَمْ يُعْطَفْ لِانْفِرَادِهِ. انْتَهَى، وَهِيَ نَزْغَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ. وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ جَوَازُ غُفْرَانِ اللَّهِ لِلْعَاصِي، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ إِلَّا الشِّرْكَ. وَالتَّوْبُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَالذَّنْبِ، اسْمُ جِنْسٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ تَوْبَةٍ، كَبَشْرٍ وَبَشْرَةٍ، وَسَاعٍ وَسَاعَةٍ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: وَقابِلِ التَّوْبِ أَنَّ تَوْبَةَ الْعَاصِي بِغَيْرِ الْكُفْرِ، كَتَوْبَةِ الْعَاصِي بِالْكُفْرِ مَقْطُوعٌ بِقَبُولِهَا. وَذَكَرُوا فِي الْقَطْعِ بِقَبُولِ تَوْبَةِ الْعَاصِي قَوْلَيْنِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى شِدَّةَ عِقَابِهِ أَرْدَفَهُ بِمَا يُطْمِعُ فِي رَحْمَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ذِي الطَّوْلِ، فَجَاءَ ذَلِكَ وَعِيدًا اكْتَنَفَهُ وَعْدَانِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الطَّوْلُ: السَّعَةُ وَالْغِنَى وَقَالَ قَتَادَةُ:
النِّعَمُ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْقُدْرَةُ، وَقَوْلُهُ: طَوْلُهُ، تَضْعِيفُ حَسَنَاتِ أَوْلِيَائِهِ وَعَفْوُهُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ.
وَلَمَّا ذَكَرَ جُمْلَةً مِنْ صِفَاتِهِ الْعُلَا الذَّاتِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، ذَكَرَ أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْأُلُوهِيَّةِ، الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ فِي الْحَشْرِ ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ مَنْ جَادَلَ فِي الْكِتَابِ، وَأَتْبَعَ بِذِكْرِ الطَّائِعِينَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَصَالِحِي عِبَادِهِ فَقَالَ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا، وَجِدَالُهُمْ فِيهَا قَوْلُهُمْ:
مَرَّةً سِحْرٌ، وَمَرَّةً شِعْرٌ، وَمَرَّةً أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَمَرَّةً إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، فَهُوَ جِدَالٌ بِالْبَاطِلِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ «١» . وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَا يُجَادِلُ:
أَيْ مَا يُمَارِي. وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: مَا يَجْحَدُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ، أَحَدُ الْمُسْتَهْزِئِينَ. وَأَمَّا مَا يَقَعُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا، وَاسْتِيضَاحِ مَعَانِيهَا، وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ وَالْعَقَائِدِ مِنْهَا، وَمُقَارَعَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ بِهَا، فَذَلِكَ فِيهِ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ. ثم نهى السامع
(١) سورة غافر: ٤٠/ ٥.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute