للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[معيشته عليه الصلاة والسلام قبل البعثة]

لم يرث عليه الصلاة والسلام من والده شيئا. بل ولد يتيما عائلا «١» فاسترضع في بني سعد. ولما بلغ مبلغا يمكّنه أن يعمل عملا كان يرعى الغنم مع إخوته من الرضاع في البادية، وكذلك لما رجع إلى مكة كان يرعاها لأهلها على قراريط كما ذكر ذلك البخاري في صحيحه «٢» . ووجود الأنبياء في حال التجرّد عن الدنيا ومشاغلها أمر لا بد منه، لأنهم لو وجدوا أغنياء لألهتهم الدنيا وشغلوا بها عن السعادة الأبدية. ولذلك ترى جميع الشرائع الإلهية متفقة على استحسان الزهد فيها والتباعد عنها، وحال الأنبياء السالفين أعظم شاهد على ذلك، فكان عيسى عليه الصلاة والسلام أزهد الناس في الدنيا، وكذلك كان موسى وابراهيم. وكانت حالتهم في صغرهم ليست سعة بل كلهم سواء، تلك حكمة بالغة أظهرها الله على أنبيائه ليكونوا نموذجا لمتّبعيهم في الامتناع عن التكالب على الدنيا والتهافت عليها، وذلك سبب البلايا والمحن. وكذلك رعاية الغنم، فما من نبي إلا رعاها كما أخبر عن ذلك الصادق المصدوق في حديث للبخاري، وهذه أيضا من بالغ الحكم، فإن الإنسان إذا استرعى الغنم وهي أضعف البهائم سكن قلبه الرأفة واللطف تعطفا، فإذا انتقل من ذلك إلى رعاية الخلق كان لما هذّب أولا من الحدّة الطبيعية والظلم الغريزي، فيكون في أعدل الأحوال. ولما شبّ عليه الصلاة والسلام كان يتجر، وكان شريكه السائب بن أبي السائب. وذهب بالتجارة لخديجة رضي الله عنها، إلى الشام على جعل «٣» يأخذه، ولما شرّفت خديجة بزواجه، وكانت ذات يسار عمل في مالها وكان يأكل من نتيجة عمله. وحقّق الله ما امتنّ عليه به في سورة الضحى بقوله جل ذكره: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى «٤» بالإيواء والإغناء قبل النبوة والهداية بالنبوة، هداه للكتاب والإيمان ودين إبراهيم عليه السلام ولم يكن يدري ذلك قبل. قال تعالى في سورة الشورى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا


(١) فقيرا لا مال له.
(٢) قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما بعث الله نبيا إلّا رعى الغنم. فقال أصحابه: وأنت؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة وقراريط جمع قيراط وهو أحد أجزاء الدينار.
(٣) ما جعل للانسان من شيء على فعل يقوم به.
(٤) اية ٦- ٨.

<<  <   >  >>