للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الحال الشديدة التي لا يتصوّر فيها أعقل العقلاء وأنبل النبلاء قوة منتظرة أو سعادة مستقبلة اللهم الا أن ذلك وحي يوحى إليه. ثم أنزل الله تعالى تثبيتا للمؤمنين أول سورة العنكبوت الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ.

وممن أوذي في الله: أبو بكر الصديق، ولما اشتدّ عليه الأذى أجمع أمره على الهجرة من مكة إلى جهة الحبشة، فخرج حتى أتى برك الغماد «١» فلقيه ابن الدّغنّة (وهو سيد قبيلة عظيمة اسمها القارة) فقال: إلى أين يا أبا بكر؟ فقال:

أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، فقال ابن الدغنة: مثلك يا أبا بكر لا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ، فأنا لك جار، فارجع وأعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل ابن الدغنة معه، وطاف في أشراف قريش، فقال لهم: أبو بكر لا يخرج مثله. أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق! فلم تكذّب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا له مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصلّ فيها ما شاء، وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لابي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القران فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه. وكان رجلا بكّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القران، فأفزع ذلك أشراف قريش، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم فقالوا: إنا كنا قد أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وأنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه بفناء داره فعل، وأن أبى ألا أن يعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك «٢» ولسنا مقرين لابي بكر الإستعلان. فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فأما أن تقصر على ذلك، وأما أن ترجع إليّ


(١) منطقة باليمن.
(٢) أن ننقض العهد.

<<  <   >  >>