للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان منهم من يرجِّع الأذان ويثنِّي الإقامة، وبلال لا يرجِّع ويفرد الإقامة، فأخذ الشافعي بإقامة بلال، وأهل مكة أخذوا بأذان أبي محذورة وإقامة بلال. وأخذ أبو حنيفة وأهل العراق بأذان بلال وإقامة أبي محذورة، وأخذ أحمد وأهل المدينة بأذان بلال وإقامته، وخالفهم مالك في موضعين: إعادة التكبير وتثنية لفظ الإقامة.


فكان أبو محذورة من أحسنهم صوتًا، فرفع صوته مستهزئًا بالأذان، فسمعه -صلى الله عليه وسلم، فأمر به، فمثل بين يديه وهو يظن أنه مقتول، فمسح -صلى الله عليه وسلم- ناصيته وصدره قال: فامتلأ قلبي نورًا وإيمانًا ويقينًا، وعلمت أنه رسول الله، فألقى عليه الأذان وعلَّمه إياه، وأمره أن يؤذّن لأهل مكة وهو ابن ست عشرة سنة، فكان يؤذنهم حتى مات، ثم عقبه بعده يتوارثون الأذان كابرًا عن كابر، "وكان منهم" أي: بعضهم، وهي فائدة الاستطرادية، أو نشأت عن سؤال هو معلوم اختلاف المذاهب في الأذان والإقامة، فما كان يفعله مؤذنوا المصطفى الذين ذكرتهم، فأجاب بأنه كان منهم "من يرجِّع الأذان، ويثنِّي الإقامة"، وهو أبو محذورة، "وبلال لا يرجِّع، ويفرد الإقامة"، أي: كلماتها إلا لفظ ق قامت الصلاة, بدليل قوله: "فأخذ الشافعي بإقامة بلال"؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- سمعه وأقرَّه, فليس استدلالًا بفعل الصحابي, والشافعي لا يقول به لا بأذانه بل بأذان أبي محذورة، "وأهل مكة أخذوا بأذان أبي محذورة" وهو ترجيع الأذان وتثنية الإقامة، "وإقامة بلال"، وهذا تطويل بلا طائل، فلو قال: وأخذ الشافعي وأهل مكة بأذان أبي محذورة، وإقامة بلال لدفع ما يوهمه لفظه، "وأخذ أبو حنيفة وأهل العراق بأذان بلال وإقامة أبي محذورة"، فقالوا: بترجيع الأذان وتثنية الإقامة، "وأخذ أحمد وأهل المدينة بأذان بلال وإقامته، وخالفهم مالك في موضعين: إعادة التكبير"، أي: تربيعه، فقال: بعدمها "وتثنية لفظ الإقامة"، فقال بإفرادها عملًا بقوله -صلى الله عليه وسلم: "الأذان والإقامة واحدة"، رواه ابن حبان.
وروى الدارقطني وحسَّنه في حديث لأبي محذورة، وأمر أن يقيم واحدة واحدة، ثم المصنف في عهدة أنه خالف أهل المدينة، كما زعمه كابن القيم، فمالك بعملهم أدرى، ونصب الجدل يطول، وقد علم مما قررته أن إعادة بدل من موضعين بيان للمفعول في خالفهم، فهو بيان للمخالف اسم مفعول لا اسم فاعل، لأن الأولى بالذكر من القولين ما نسب لمن خالفه من جعل فاعلًا، وترك المصنف ممن أذن زياد بن الحارث الصدائي -بضم المهملة- أذن مرة، فقال -صلى الله عليه وسلم: "من أذن فهو يقيم"، أخرجه أحمد وأصحاب السنن؛ لأنه لم يتكرر, ونظم الخمسة البرماوي، فقال:
لخير الورى خمس من الغر أذَّنوا ... بلال ندي الصوت بدأ يعين
وعمر والذي أم لمكتوم أمه ... وبالقرظ أذكر سعدهم إذ يبين

<<  <  ج: ص:  >  >>