للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ} [نوح: ٢٦] الآية. ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا، فلقد وُطِئَ ظهرك وأُدْمِيَ وجهك وكسرت رباعيتك, فأبيت أن تقول إلّا خيرًا فقلت: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".

وههنا دقيقة وهي أنه -عليه الصلاة والسلام- لما شجَّ وجهه عفا وقال: اللهم اهد قومي، وحين شغلوه عن الصلاة يوم الخندق قال: "اللهم املأ بطونهم نارًا"، فتَحَمَّل الشجَّة الحاصلة في وجهه الشريف، وما تحمَّل الشجة الحاصلة في وجه دينه، فإن وجه الدين هو الصلاة، فرجَّح حق خالقه على حقه.

واعلم أن الصبر على الأذى جهاد النفس، وقد جبل الله تعالى النفس على


حتى عرفوه ووصفوه به، "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه، فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ} وإنما قال: هذا لأنه مشربه مشرب نوح، كما شبهه النبي -صلى الله عليه وسلم- به في أسارى بدر، "ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا" أي: من أولنا إلى آخرنا, أي: جميعًا, وعند زائدة: ومن بمعنى إلى، أو كناية عن هلاك الجميع؛ إذ لا يكون الهلاك عند آخرهم إلّا إذا شملهم جميعًا، ولو دعوتها ما لمت، "فلقد وطئ ظهرك، وأدمي وجهك، وكُسِرَت رباعيتك، فأبيت أن تقول إلا خيرًا، فقلت: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" إن ما جئت به هو الحق، وهم عُبَّاد أوثان، فلا يرد الذين آتيناهم الكتاب، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، على أن المراد علماء أهل اكتاب، كما في البيضاوي.
"وههنا دقيقة هي" أنَّ حلمه وعفوه، إنما هو فيما يتعلَّق بنفسه الشريف، وذلك "أنه عليه الصلاة والسلام، لما شج وجهه عفا، وقال: "اللهم اهد قومي"، وحين شغلوه عن الصلاة يوم الخندق، قال: "اللهم املأ بطونهم نارًا" لفظ الصحيحين "ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس"، "فتحمل الشجة الحاصلة في وجهه الشريف، وما تحمل الشجة الحاصلة في وجه دينه، فإن وجهه الدين هو الصلاة، فرجَّح حق خالقه على حقه" كما هو عادته، "واعلم أن الصبر على الأذى جهاد النفس" حصر المبتدأ في الخبر، فأفاد الحصر، في نسخة للنفس بلام، وحذفها أبلغ في الحصر، والمراد به المبالغة، كأنه جعل جهادها، إنما هو الصبر على الأذى، فغيره ليس جهادًا لها، فلا يرد عليه أنهم عدوا من جهادها أشياء كثيرة، غير الصبر، "وقد جبل الله تعالى النفس على التألم بما يفعل بها" والتألم سبب

<<  <  ج: ص:  >  >>