للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدًا والنصارى بعد غد"


التعيين، وذكر أبو عبد الله الأبي عن بعض الآثار، أن موسى عين لهم يوم الجمعة، وأخبرهم بفضله، فناظروه بأن السبت أفضل، فأوحى الله: "دعهم وما اختاروا"، أي: بأن قالوا هو يوم فراغ وقطع عمل، فإن الله فرغ من خلق السماوات والأرض، فينبغي انقطاعنا عن العمل فيه للتعبد، قالت النصارى: الأحد لأنه يوم الخلق الموجب الشكر والتعبد، ووفق الله هذه الأمة للصواب، فعينوا الجمعة، لأن الله خلق الإنسان للعبادة، وكان خلقه يومها، فالعبادة فيه أحق، لأنه أوجد سائر الأيام ما ينفع الإنسان، وفي الجمعة أوجد نفس الإنسان، فالشكر على نعمة الوجود، "فهدانا الله له" بالنص عليه، أو بالاجتهاد، ويشهد للثاني ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح، عن محمد بن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل أن ينزل الجمعة، فقالت الأنصار: إن لليهود يومًا يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل في ذلك، فهلم، فلنجعل يومًا نجتمع فيه، فنذكر الله، ونصلي ونشكره، فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة، فصلى بهم يومئذ، وأنزل الله بعد ذلك: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: ٩] الآية، وهذا وإن كان مرسلا، فله بإسناد حسن أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة، وغير واحد من حديث كعب بن مالك، قال: كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسعد بن زرارة ... الحديث، فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد، ولا يمنع ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي، وهو بمكة، فلم يتمكن من إقامتها، ثم وقد ورد فيه حديث ابن عباس عند الدارقطني، ولذا جمع بهم أول ما قدم المدينة، كما حكاه ابن إسحاق وغيره.
وعلى هذا فقد حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوفيق، وقيل: في حكمة اختيارهم الجمعة وقوع خلق آدم فيه، والإنسان إنما خلق للعبادة، فناسب الاشتغال بها، ولأن الله أكمل في الموجودات وأوجد فيه الإنسان الذي ينتفع بها، فناسب أن يشكر على ذلك بالعبادة، ذكره الحافظ.
"فالناس لنا فيه تبع اليهود غدًا" أي: السبت، "والنصارى بعد غد" أي: الأحد, وفي رواية ابن خزيمة: "فهو لنا، ولليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد". والمعنى: أنه لنا بهداية الله، ولهم باختيارهم، وخطئهم في اجتهادهم.
قال القرطبي: غدا منصوب على الظرف، متعلق بمحذوف، تقديره اليهود يعظمون غدًا، وكذا قوله بعد غد، ولا بد من هذا التقدير، لأن ظرف الزمان لا يكون خبرًا من الجنة، وقال: ابن مالك: الأصل أن يكون المخبر عنه بظرف الزمان من أسماء المعاني، كقولك: غدًا التأهب، وبعد غد الرحيل، فيقدر هنا مضافان، يكون ظرفا الزمان خبرين عنهما، أي: تبعية اليهود غدًا، وتبعية النصارى بعد غد. انتهى.

<<  <  ج: ص:  >  >>