للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قائل بالفرق بين عيسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام.

والجواب: أن النصارى استعظموا المسيح بحيث يرتفع من أن يكون عبدًا من عباد الله، بل ينبغي أن يكون ابنا له؛ لأنه مجرد لا أب له، وكان يبرئ


على فضل الملائكة على الأنبياء، ثم أجابوا عن قصور الدليل على فضلهم على عيسى، فلا يلزم ذلك على بقية الأنبياء بقولهم، "ثم لا قائل بالفرق" وفي نسخ: بالفصل، بصاد مهملة، أي: التمييز "بين عيسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام" فثبت الدليل بقياس المساواة، لكن قد اعترض الفخر هذا الاستدلال بوجوه، بأن محمدًا أفضل من المسيح، ولا يلزم من فضل الملائكة عليه فضلهم على محمد صلى الله عليه وسلم، وبأن قوله: {وَلَا الْمَلَائِكَة الْمُقَرَّبُونَ} ، صيغة جمع تتناول الكل، فتفيد أن مجموعهم أفضل من المسيح، لا أن كل واحد أفضل منه؛ ولأن الواو حرف عطف، فتفيد الجمع المطلق لا الترتيب، فأما المثال المذكور، فليس بحجة؛ لأن الحكم الكلي لا يثبت بالمثال الجزئي، ثم هو معارض بسائر الأمثلة، كقولك: ما أعانني على هذا الأمر لا عمرو ولا زيد، فلا يفيد فضل المتأخر في الذكر، ومنه قوله تعالى: {وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ} [المائدة: ٢] ، فلما اختلفت الأمثلة امتنع التعويل عليها، ثم تحقيق المسألة، إذا قيل: هذا العالم لا يستنكف عن خدمته الوزير ولا السلطان، فنحن نعلم بعقولنا أن السلطان أعظم درجة من الوزير، فعرفنا أن الغرض من ذكر الثاني المبالغة، وإنما عرفناها بالعقل، لا بمجرد الترتيب، فلا يمكننا أن نعرف أن المراد في: {وَلَا الْمَلَائِكَة} ، بيان المبالغة، إلا إذا عرفنا قبل ذلك أن الملائكة أفضل من المسيح، وحينئذ تتوقف صحة الدليل على صحة المطلوب وهو دور.
"والجواب" على تقدير أن الآية دالة على أن منصب الملك أعلى من المسيح، لكنها لا تدل على أن تلك الزيادة في جميع المناصب، بل في بعضها، فقولك: لا يستنكف من خدمة هذا العالم الوزير، ولا السلطان، إنما يفيد أن السلطان أكمل منه في بعض الأشياء وهي القدرة والسلطة، ولا يفيد زيادته على الوزير في العلم والزهد، فإذا ثبت هذا، فنحن نقول بموجبه، وهو أن الملك أفضل من البشر في القدرة والقوة والبطش، فإن جبريل قلع مدائن قوم لوط، والبشر لا يقدر على ذلك، فلم قلتم بفضل الملك على البشر في كثرة الثواب الذي هو محل الخلاف في المسألة، وكثرته إنما تحصل بنهاية التواضع والخضوع، ووصف العبد بذلك لا يلائم صيرورته مستنكفًا عن العبودية لله، بل يناقضها، فامتنع كون المراد من الآية هذا المعنى، أما اتصافه بالقدرة الشديدة، والقوة الكاملة، فمناسب للتمرد وترك العبودية، وذلك "أن النصارى استعظموا المسيح بحيث يرتفع" وفي نسخة: يرتفع، أي: يتعالى، "من أن يكون عبدًا من عباد الله، بل ينبغي أن يكون ابنًا له" كما قال تعالى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: ٢٠] الآية،

<<  <  ج: ص:  >  >>