للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسية السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينًا عميًا وآذانًا


بل ملته سمحة، ولا ينافيه وقوع الغلظة اللائقة أو الواجبة أحيانًا؛ لأنها لا تنافي حسن الخلق أو المراد نفيهما، بحسب الخلقة أو في غير محلهما، وقول النسوة لعمر: أنت أفظ أغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس القصد به التفضيل، بل أصل الفعل، أو من قبيل العسل أحلى من الخل، أي: غلظتك يا عمر أشد من رقته صلى الله عليه وسلم، واختاره في المصابيح، ثم يحتمل أن يتكون هذه آية أخرى في التوراة، لبيان صفته، وأن تكون حالًا من المتوكل، أو من الكاف في سميتك، ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة حتى لا يواجهه بمثله، وإن كان منفيًا، "ولا سخاب" بشد الخاء بعد السين، ويقال: بالصاد، وهو أفصح، وادعى بعض أنه روى بهما، أي: لا يرفع صوته على الناس لسوء خلقه ولا يكثر الصياح عليهم "في الأسواق" بل يلين جانبه ويرفق بهم، وهو من نفي المقيد بدون قيده، ففيه دخوله صلى الله عليه وسلم الأسواق تواضعًا وتركًا لعادة الجبارين من الملوك، وردًا لقول الكفرة: ما لهذا الرسول، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويحتمل أنه من نفي القيد والمقيد معًا، كما قال الطيبي: المراد نفي السخابية وكونه في الأسواق.
انتهى على معنى نفي اعتياد دخوله في الأسواق، كأرباب الدنيا، بل إنما يدخلها لحاجة، فلا يشكل ما قاله بأنه خلاف الواقع والمبالغة للنسبة، كخياط أو بذي سخب، كما في: وما ربك بظلام في أحد الوجوه أو على بابها، لثبوت أصل الخسب له في محله، كخطبة وتلبية ونحوهما، "ولا يدفع" هكذا الرواية في البخاري في المحلين، فنسخة: ولا يجزي تصحيف "بالسيئة السيئة" هو كقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَة} [المؤمنون: ٩٦] ، وخلقه القرآن.
وقد قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: ٤٠] ولذا قال: "ولكن يعفو" يمحو ويزيل السيئة من ظاهر وخاطره، "ويغفر" يستر السيئة، ولا يلزم منه إزالتها، أو يعفو تارة، ويستر أخرى، فلا يفضح، فيقول في خطبته: ما بال أقوام يفعلون كذا، أو هما متساويان، فالثاني تأكيد، ونقل القرطبي عن بعضهم؛ لأن الغفر ستر، لا يقع معه عقاب ولا عتاب، والعفو إنما يكون بعد عقاب أو عتاب، فإن استعمل في غيره فهو مجاز.
وفي نسخة: ويصفح، "ولن يقبضه" يميته "الله" وأصله أخذ المال واستيفاؤه، أطلق على الموت بتشبيه الحياة والروح بالمال، كما قيل:
إذا كان رأس المال عمرك فاحترس ... عليه من الإنفاق في غير واجب
أو هو من استعمال المقيد في المطلق، ثم شاع حتى صار حقيقة فيه، "حتى يقيم به

<<  <  ج: ص:  >  >>