للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون} [القلم: ٢] .

وكيف يرمى بالجنون من أتى بما عجزت العقلاء قاطبة عن معارضته، وكلت عن مماثلته، وعرفهم عن الحق بما لا تهتدي إليه عقولهم، بحيث أذعنت له عقول العقلاء، وخضعت له ألباب الألباء، وتلاشت في جنب ما جاء به، بحيث لم يسعها إلا التسليم له، والانقياد والإذعان طائعة مختارة، فهو الذي يكمل عقولها كما تكمل الطفل برضاع الثدي.

ثم أخبر تعالى عن كمال شريعة نبيه في دنياه وآخرته فقال: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي: ثوابًا غير منقطع، بل هو دائم، ونكر الأجر للتعظيم، أي


وبصاد مهملة إذا صغر الناس وازدرى بهم، واستحسن هذا الفرق بعد أن قال أنهما سواء، الآية، "وتكذيبهم له" بالحر، عطف على مان أي: نزهه عن تكذيبهم له، وهو وقاع "بقوله تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون} ؛ لأن معنى الآية بسبب أنه تعالى أنعم عليك بكمال العقل والمعرفة، فأفادت تنزيهه عن الكذب، وأن تكذيبهم له كلا تكذيب لعدم الاعتداد به مع قيام الدليل على خلافه، "وكيف يرمى بالجنون" استفهام إنكاري، وهو أن يكون ما بعد أدلته عير واقع، ومدعيه كاذبًا، "من أتى بما عجزت العقلاء قاطبة"، أي: جميعًا "عن معارضته، وكلت" أعيت وعجزت "عن مماثلته، وعرفهم عن الحق" سبحانه "بما لا تهتدي إليه عقولهم، بحيث أذعنت": انقادت "له عقول العقلاء" ولم تستعص عليه، "وخضعت": ذلت "له ألباب" جمع لب، بزنة قفل وأقفال "الألباء" جمع لبيب، بزنة أشحاء وشحيح، أي: عقول وأصحاب العقول الراجحة، "وتلاشت" أي: خست حتى صارت بمنزلة العدم "في جنب ما جاء به، بحيث لم يسعها إلا التسليم له والانقياد والإذعان"، عطف خاص على عام؛ لأنه انقياد بلا استعصاء، بخلاف مطلق الانقياد، فقد يكون معه استعصاء، "طائعة مختارة، فهو الذي يكمل" "بشد الميم المكسورة" "عقولها كما تكمل الطفل برضاع الثدي، ثم" بعد أن نزهه وبرأه، "أخبر تعالى عن كمال شريعة نبيه في دنياه وآخرته" لفظ الشفاء، ثم أعلمه سبحانه، بما له عنده من نعيم دائم وثواب غير منقطع، لا يأخذه العد، ولا يمن به عليه، "فقال" بالفاء لتفرعه على ما قبله من الأخبار، أو تفصيل له في الجملة، {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} ، وعطفه أولًا بثم، إشارة إلى بعد ما بين الأمرين، تعبه السريع الانقطاع، ونعيمه الدائم، الواقع في مقابلة تكذيبهم له، والأجر المضاف على عمله، وصبره على طعنهم ورميهم بما لا يليق، ففيه تسلية له صلى الله عليه وسلم، كأنه قيل: لا تحزن، فقد تبين كذبهم بداهة، فلا نقص يعود عليك مما قالوه، فلك نعيم مؤيد في مقابلته،

<<  <  ج: ص:  >  >>