للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الروح حينئذٍ بين الهيئة والأنس إلى الحبيب الأول.

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدًا لأول منزل

وبحسب هذا الاتباع توجب المحبة والمحبوبية معًا، ولا يتم الأمر إلا بهما، فليس الشأن أن تحب الله، بل الشأن يحبك الله، ولا يحبك إلا إذا اتبعت حبيبه ظاهرًا وباطنًا، وصدقته خبرًا، وأطعته أمرًا، وأجبته دعوة، وآثرته طوعًا، وفنيت عن حكم غيره بحكمه، وعن محبة غيره من الخلق وعن طاعة غيره بطاعته، وإن لم تكن كذلك فلا تتعن فلست على شيء.


والظلمة لا يجتمعان" لا يدخل أحدهما على الآخر "إلا ويطرح" يزيل ويذهب "أحدهما الآخر، فوقعت الروح حينئذٍ بين الهيبة والأنس إلى الحبيب الأول"، يتنازعه كل من الهيئة والأنس، ويحتمل تعلقه بوقعت، وبين الهيبة والأنس حال، يعني أنه وقع بين أمرين متضادين، فالهيبة تقتضي الفزع والخوف ممن يهابه، والإنس يقتضي انشراح النفس وانبساطها ممن تأنس به، وأنشد لغيره:
"نقل فؤادك حيث ئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول"
"كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدًا لأول منزل"
نقل "بالنون" ومن الهوى متعلق به، أي: نقل فؤادك وعلقه بمن تهوى من كل ما تميل نفسك إليه، فإنك وإن فعلت ذلك لا بد لك من الرجوع إلى الحبيب الأول، لمعرفة مقامه بالميل إلى غيره "وبحسب" أي: بقدر "هذا الاتباع توجب" "بضم التاء وفتح الجيم وموحده"، أي: تحصل وتوجد "المحبة والمحبوبية معًا، ولا يتم الأمر إلا بهما، فليس الشأن" الأمر العظيم المرتب عليه سائر الكمالات؛ "أن تحب الله" فقط، "بل الشأن أن يحبك الله، ولا يحبك إلا إذا اتبعت حبيبه" صلى الله عليه وسلم "ظاهرًا وباطنًا، وصدقته خبرًا"، أي: فيما وصل إليك من أخباره، "وأطعته أمرًا"، أي: فيما أمر به، "وأجبته دعوة" أي: أجبت دعوته حيث دعاك "وآثرته طوعًا"، أي: فضلت طاعته وقدمتها على كل شيء لأن من فضل شيئًا قدمه على غيره، فلا يرد أن معنى الإيثار التفضيل، والمراد هنا التقديم، كقوله: {َيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: ٩] ؛ لأن التقديم لازم للتفضيل، فاللفظ هنا مستعمل فيهما، والأنصار لما فضلوا المهاجرين قدموهم على أنفسهم غاية التعظيم، حتى إن بعض من كان له زوجتان، عرض إحداهما على المهاجري الذي أخى المصطفى بينه وبينه، "وفنيت عن حكم غيره" فلم تجعل لنفسك وجودًا، ولا انقيادًا له

<<  <  ج: ص:  >  >>