للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يزال مسافرا إلى ربه لا ينقطع سيره إلي ما دام في قيد الحياة، فهو محتاج إلى زاد العبادة لا يستغنى عنه ألبتة، ولو أتى بأعمال الثقلين جميعا، وكلما كان العبد في الله تعالى أقرب كان جهاده في الله أعظم، قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: ٧٨] ، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق اجتهادا وقياما بوظائف العبادة، ومحافظة عليها إلى أن توفاه الله تعالى. وتأمل أصحابه رضي الله عنهم فإنهم كانوا كلما ترقوا من القرب مقاما عظم جهادهم واجتهادهم.

ولا تلتفت إلى ما يظنه بعض المنتسبين إلى التصوف حيث قال: القرب


بعض خلقه ألهمه فعله وأقدره عليه "وإذا كان العبد لا يزال مسافرا" أي مشغولا بالعبادة "إلى" لقاء "ربه" ففيه استعارة تصريحية تبعية، شبه الاشتغال بالطاعة بسفر إنسان إلى مقصد يريده، واشتق منه الوصف بمسافر "لا ينقطع سيره إليه ما دام في قيد الحياة، فهو محتاج إلى زاد العبادة" أي ما يوصله إليها، كاجتهاده في الطاعات وكثرة النوافل، فالعابد كأنه جعل طاعته مودية للوصول إلى الله، كطعام المسافر يوصله إلى مقصده، "لا يستغنى عنه البتة"، "بقطع الهمزة"، "ولو أتى بأعمال الثقلين" الإنس والجن "جميعا، وكلما كان العبد إلى الله تعالى أقرب" قربا معنويا، "كان جهاده في الله أعظم" من غيره، "قال تعالى: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي لله، ومن أجله أعداء الله الظاهرة كأهل الزيغ، والباطنة كالقوى والنفس.
روى البيهقي في الزهد، وضعف إسناده عن جابر، قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم غزاة، فقال: "قدمتم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر". قيل: وما الجهاد الأكبر؟ قال: "مجاهدة العبد نفسه". "حق جهاده" أي جهادا فيه، حقا خالصا لوجهه، فعكس، وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة، كقولك: هو حق عالم، وأضيف الجهاد إلى الضمير اتساعا، أو لأنه يختص بالله من حيث أنه مفعول لوجه الله ومن أجله، قاله البيضاوي تبعا للزمخشري.
قال الطيبي: يعني أن أصل المعنى: جاهدوا في الله جهادا حقا، فهو يفيد أن هناك جهادا واجبا، والمطلوب منهم الإتيان به، فإذا عكس وأضيفت الصفة إلى الموصوف بعد الإضافة إلى الله تعالى، أفاد إثبات جهاد مختص بالله، والمطلوب القيام بواجبه وشرائطه على وجه التمام بقدر التوسع والطاقة، "ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق اجتهادا وقياما بوظائف العبادة ومحافظة عليها، إلى أن توفاه الله تعالى وتأمل أصحابه" أي أحوالهم "رضي الله عنهم، فإنهم كانوا كلما ترقوا من القرب" المعنوي من الله "مقاما، عظم جهادهم" لأنفسهم ولأعداء الله،

<<  <  ج: ص:  >  >>