للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وروينا مما ذكره القاضي عياض في "الشفاء" أنَّ أبا الفضل الجوهري لما ورد إلى المدينة زائرًا، وقرب من بيوتها ترجَّل ومشى باكيًا منشدًا.

ولما رأينا رسم من لم يدع لنا ... فؤادًا لعرفان الرسوم ولا لبا

نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن بان عنه أن نلم به ركبا

وأنبئت بأن العلامة أبا عبد الله بن رشيد قال: لما قدمنا المدينة سنة أربع


الأشج؛ حيث أناخ راحلته، وأخرج منها ثيابًا لبسها، ثم أتى إليه، فقال: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة".
"وروينا مما ذكره القاضي عياض في الشفاء أنَّ أبا الفضل الجوهري" قال: شارح الشفاء ليس هو عبد الملك بن الحسن البصري, الواعظ بمصر في حدود السبعين وأربعمائة، وكان من العلماء الصالحين, يتبرك به ويقتدى به في السلوك، وإنما هو كما في تاريخ الأندلس: عبد الله بن الحكم الترمذي الأندلسي, ذو الوزارتين، له فضل باهر وحسب وأدب, عالم بالقراءات والحديث, وله شعر رائق ونثر فائق، وارتحل للمشرق فأخذ به عن ابن عساكر, وأكثر الرواية عنه, وله رياسة في عصره، صار بها كالمثل السائر إلى أن ردت الأيام منه ما وهبت، فانقضت أيامه وذهبت، فقُتِل لما خلع سلطانه، فنهبت أمواله وكتبه, ومات شهيدًا -رحمه الله, "لما ورد إلى المدينة زائرًا, وقرب من بيوتها ترجَّل" نزل عن دابته التي كان راكبًا عليها, "ومشى" تأدبًا حال كونه "باكيًا" خضوعًا وشوقًا أو سرورًا, "منشدًا" قول أبي الطيب المتنبي يمدح سيف الدولة من قصيدة أولها:
فديناك من ربع وإن زدتنا كربًا ... لأنك كنت الشرق للشمس والغربا
إلى أن قال: "ولما رأينا رسم" آثار الديار الدارسة، والمراد هنا آثاره -صلى الله عليه وسلم- في معاهده ومساكنه, "من لم يدع" يترك "لنا فؤادًا" قلبًا، أو داخل القلب أو غشاءه, "لعرفان" بمعنى معرفة "الرسوم" جمع رسم, "ولا لبًّا" عقلًا, "نزلنا عن الأكوار" جمع كور بالضم, وهو الرحل للإبل, بمنزلة السرج للفرس, "نمشي كرامة لمن بان" أي: بعد "عنه" أي: عن الإلمام, فالضمير عائد على متأخّر وهو البدل في قوله: "أن نلمّ" أي: عن أن نلم به من ألَمَّ إذا أتى، أي: نأتي لزيارته, "ركبًا" اسم جمع لراكب الإبل، أو أعمّ، أي: ركبانًا، وحاصل معناه أنه لا يليق بالأدب لمن كان بعيدًا عن محبوبه، ثم قرب منه أن يأتي إليه راكبًا، بل ماشيًا إكرامًا له.
قال بعضهم: والإلمام الإتيان قليلًا, ويكون بمعنى القرب، ومن فسّر بأن بمعنى ظهر لم يصب، ولقد أجاد في تمثّله به ونقله للمحل الأليق به، وهذا نوع من البلاغة قريب من التضمين، وهو أن يورد شعر الغير في مقام يكون أحقّ به من صاحبه، ولم يتعرّض له أصحاب البديع، إلّا أن الإمام محمدًا التوزي أورده في كتاب الغرَّة اللائحة "وأنبئت أن العلامة أبا عبد الله" محمد بن

<<  <  ج: ص:  >  >>