للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وثمانين وستمائة، كان معي رفيقي الوزير أبو عبد الله بن أبي القاسم بن الحكم، وكان أرمد، فلمَّا دخلنا ذا الحليفة أو نحوها نزلنا عن الأكوار، وقوي الشوق لقرب المزار، فنزل وبادر إلى المشي على قدميه احتسابًا لتلك الآثار، وإعظامًا لمن حلَّ تلك الديار، فأحس بالشفاء, فأنشد لنفسه في وصف الحال:

ولما رأينا من ربوع حبيبنا ... بيثرب أعلامًا أثرن لنا الحبا

وبالتراب منها إذا كحلنا جفوننا ... شفينا فلا بأسًا نخاف ولا كربا

وحين تبدَّى للعيون جمالها ... ومن بعدها عنا أذيلت لنا قربا

نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن حلّ فيها أن نلم به ركبا

نسح سجال الدمع في عرصاته ... ونلثم من حب لواطئه التربا


عمر "بن رشيد" بضمّ الراء وفتح المعجمة- الفهري السبتي، المولود بها سنة سبع وخمسين وستمائة، كان إمامًا حافظًا، فقيهًا عالمًا باللغة والعربية والعروض والقراءات والأصلين، حسن الخلق، كثير التواضع، ريّان من الأدب، ماهرًا في الحديث، أخذ ببلاده عن جماعة، ثم رحل فسمع بمصر والشام والحجاز عن خلائف ضمنهم رحلته التي سماها: ملء العيبة, وهي ست ملجدات، ثم عاد إلى غرناطة, فنشر بها العلم, ومات بفاس في محرَّم سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة, "قال: لما قدمنا المدينة سنة أربع وثمانين وستمائة, كان معي رفيقي الوزير أبو عبد الله بن أبي القاسم بن الحكم, وكان أرمد، فلمَّا دخلنا ذا الحليفة" ميقات المدينة "أو نحوها, نزلنا عن الأكوار" الرحال, "وقوي الشوق لقرب المزار، فنزل" عن راحلته وبادر إلى المشي على قدميه احتسابًا" طالبًا الثواب مخلصًا "لتلك الآثار, وإعظامًا لمن حلّ تلك الديار" حبيب العزيز الغفار, "فأحسَّ بالشفاء" من الرمد, "فأنشد لنفسه في وصف الحال"
ولما رأينا من ربوع حبيبنا ... بيثرب أعلاما أثرن لنا الحبا
ولو قال: بطيبة بدل بيثرب كان الأولى بمزيد الشوق والأدب, "وبالترب:" بضم فسكون- جمع تراب "منها: إذ كحلنا" بالتخفيف "جفوننا, شفينا فلا بأسًا" شدة "نخاف ولا كربًا, وحين تبدى" ظهر "للعيون جمالها, ومن بعدها عنا أذيلت" بضم الهمزة وكسر الذال المعجمة- أي: سهلت "لنا قربًا" أي: من جهة القرب حتى صرنا نراها بأعيننا, "نزلنا عن الأكوار" الرحال "نمشي كرامة لمن حلّ فيها" لعل هذه رواية ثانية, وهي أسلس من قوله في الرواية الأولى السابقة: لمن بان عنه, "أن نلمّ به" نأتي إليه "ركبًا" أي: ركبانًا، وهذا البيت من قصيدة المتنبي, فهو من التضمين، وهو أن يضمّن شعره أو نثره شيئًا من كلام غيره, من غير نسبته إليه, وهو من البديع, "نسح" بضم السين، أي: نسيل, "سجال" بكسر السين وبالجيم- جمع سجل, وهو الدلو العظيمة الدمع في عرصاته" ساحاته, "ونلثم" بفتح المثلثة أفصح من كسرها نقبل "من" أجل حب لواطئه التربا"

<<  <  ج: ص:  >  >>