للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المسلِّمون في كل لمحة أكثر من ألف ألف ألف, لوسعهم ذلك الإقبال النبوي والالتفات الروحاني، ولقد رأيت من ذلك ما لا أستطيع أن أعبّر عنه، ولقد أحسن من سُئِلَ: كيف يرد النبي -صلى الله عليه وسلم- على مَنْ سَلَّمَ عليه من مشارق الأرض ومغاربها في آنٍ واحد, فأنشد قول أبي الطيب:

كالشمس في وسط السماء ونورها ... يغشى البلاد مشارقًا ومغاربًا


المسلِّمون" بكسر اللام الثقيلة, "في كل لمحة أكثر من ألف ألف ألف" ثلاثًا؛ "لوسعهم ذلك الإقبال النبوي, والالتفات الروحاني، ولقد رأيت من ذلك ما لا أستطيع أن أعبِّر عنه"؛ لأنه أمر لا يدرك بالعبارة, وإنما يعرفه من شاهده, ولا يقدر على التعبير عنه.
وفي فتح الباري أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة، أحدها: إن المراد بقوله: "ردَّ الله إلي روحي" أن رد روحه كانت ساقة عقب دفنه, لا أنها تعاد ثم تنزع ثم تعاد. الثاني: سلمنا, لكن ليس هو نزع موت بل لا مشقة فيه. الثالث: إن المراد بالروح الملك الموكَّل بذلك. الرابع: المراد بالروح النطق، فتجوز فيه من جهة خطابنا بما نفهمه. الخامس: إنه يستغرق في أمور الملأ الأعلى، فإذا سلَّم عليه رجع إليه فهمه؛ ليجيب مَنْ يسلِّم عليه، واستشكل ذلك من جهة أخرى, وهو أنه يستلزم استغراق الزمان كله في ذلك لاتصال الصلاة -عليه والسلام- في سائر أقطار الأرض ممن لا يحصى كثرة، وأجيب بأن أمور الآخرة لا تدرك بالعقل وأحوال البرزخ أشبه بأحوال الآخرة. انتهى.
بلفظه: والجوب الأوّل للبيهقي, واعترض بأنه خلاف الظاهر، واعترض الثالث بأن الإضافة في روحي تأباه، وأجيب بأنه لما كان ملازمًا مختصًّا به صحَّت إضافته إليه، بل قيل: إنه أقرب الأجوبة، وقد أطلق الروح على الملك في القرآن والسنَّة، واعترض الرابع بأن استعارة الروح للنطق بعيدة وغير مألوفة, ولا رونق لها يليق بالفصاحة النبوية، ولو سلم كان ركيكًا؛ لأن قوله: حتى أراد يأباه، وتعقّب بأنه لا بعد ولا ركاكة؛ لأنه للتقريب للإفهام كما قال، بل علاقة المجاز كما قال ابن الملقن وغيره: إن النطق من لازمه وجود النطق بالفعل أو بالقوة, وهو في البرزخ مشغول بأحوال الملكوت, مستغرق في مشاهدته، مأخوذ عن النطق بسبب ذلك، ومن الأجوبة أنَّ رد الروح مجاز عن المسرَّة، فإنه يقال لمن سر عادت له روحه، ولضده ذهبت، فهو عبارة عن دوم سروره -صلى الله عليه وسلم- بالسلام عليه؛ لأن الكون لا يخلو عن مسلِّمٍ عليه، بل قد يتعدَّد في آنٍ واحد ما لا يحصى وأن رد الروح عبارة عن حضور الفكر كما قيل في خبر: إنه ليغان على قلبي, "ولقد أحسن من سئل كيف يرد النبي -صلى الله عليه وسلم- على مَنْ سَلَّم عليه في مشارق الأرض ومغاربها في آنٍ واحد، فأنشد قول أبي الطيب" أحمد المتنبي في ممدوحه ناقلًا له إلى من هو اللائق به:
كالشمس في وسط السماء ونورها ... يغشى البلاد مشارقًا ومغاربًا

<<  <  ج: ص:  >  >>