ومعرفة العلة لا تأتي إلا بطول الممارسة والخبرة الطويلة جداً، حتى يعلم العالم ما يمكن أن يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل وما يمكن أن يصدر عن الرواة أنفسهم.
ولو أن ملكاً أو رئيساً من رؤساء الدنيا عنده خادم خدمه خمسين أو ستين عاماً فإنه لا يتصور أن يبقى شيء من أمر الملك أو الرئيس إلا ويعلمه ذلك الخادم، وخاصة ما يمكن أن يقوله ذلك الرئيس وما لا يمكن أن يقوله، فإذا كان لم يسمع الملك تلفظ بكلمة قبيحة طوال الخمسين سنة ثم أتى من يقول له: إن الملك يتكلم بألفاظ قبيحة، فسيكذبه الخادم من أول وهلة؛ لأنه منذ خمسين سنة يخدم الملك ويعرف ما يمكن أن يصدر عنه من ألفاظ، وأنه لا يمكن أن يصدر منه العيب أبداً.
وكذلك العالم الكبير في هذا الفن الذي مارس حديث النبي صلى الله عليه وسلم حياته كلها، فقد أصبح لديه حاسة إذا سمع لفظاً أو إسناداً عرف أن هذا الإسناد مستقيم أو غير مستقيم، وهذا الكلام يصدر أو لا يصدر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم؛ لكثرة ممارسته للأسانيد وحفظه للرجال ومراتبهم وطبقاتهم، وبناء على خبرته الطويلة يحكم بأن هذا الحديث معلول أو غير معلول.
فعلم العلل عبارة عن إلهام من الله عز وجل يلقيه في قلوب النُقّاد، وليس معنى هذا أن يحدث كل منا ويقول: هذا حديث موضوع، وهذا حديث صحيح، وأن هذا يمكن أن يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لا يمكن أن يصدر عنه صلى الله عليه وسلم، بل هذا الكلام يقوله ابن المديني والبخاري والدارقطني.
وقد بين الخطيب البغدادي السبيل إلى معرفة العلة إذا كان يمكن أن يتوصل إليها، وذلك بما يعرف في هذا العلم بالتتبع، والشواهد، والاعتبار.
وهو: جمع طرق الحديث من بطون كتب السنة والمقارنة بينها؛ حتى يعرف ما إذا كان هذا الحديث مرفوعاً أو موقوفاً، أو موصولاً أم مرسلاً، ثم الترجيح بينها، فإذا ترجّح الرفع كان الوقف هو المعلول، وإذا ترجّح الوقف كان الرفع هو المعلول، فإذا كان الحديث قد روي مرفوعاً من طريق الحفاظ الثقات الضابطين، وروي موقوفاً من طريق أهل الصدق والستر والأمانة رجح المرفوع.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: حذاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث ومعرفتهم بالرجال وأحاديث كل واحد منهم؛ لهم فَهْمٌ خاصٌّ يفهمون به أن هذا الحديث يشبه حديث فلان ولا يشبه حديث فلان، فيعللون الأحاديث بذلك.
فمثلاً إذا أتى حديث من طريق الزهري، ونفس الحديث جاء من طريق حماد مثلاً قالوا: هذا الحديث أليق بـ الزهري، أي: أنه أشبه بـ الزهري، ويقولون: أخطأ فيه حماد.
وهذا يرجع فيه إلى الفهم والمعرفة التي خصوا بها عن سائر أهل العلم.