[الحديث المشهور بين الأصوليين]
وقد اشتهر عند الأصوليين حديث معاذ حينما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال: (بم تحكم يا معاذ؟).
وقصة بعث معاذ إلى اليمن جاء فيها حديثان: أحدهما في غاية الصحة والآخر في غاية النكارة: فأما الصحيح منهما فهو أنه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال: (يا معاذ! إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض على أغنيائهم زكاة تؤخذ من أموالهم فترد على فقرائهم).
وأما المنكر فهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بم تحكم إذا عرض لك قضاء؟ قال: أحكم بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو -أي: ولا أقصر- فضرب النبي صلى الله عليه وسلم صدري بيده وقال: الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله إلى ما يحبه الله ورسوله).
فهذا الحديث قال عنه إمام الأئمة الإمام البخاري وسيد المحدثين: حديث منكر، ولو نظرت إلى الإسناد لما وجدت فيه نكارة، وإنما ستجد فيه ضعفاً، فأصحاب معاذ مبهمين، كما أن في الإسناد إلى أصحاب معاذ من هو ضعيف، فهذا الحديث من حيث الإسناد لا يصح.
وما في إسناده راو مبهم أو ضعيف لا يقال عنه: حديث منكر، فإطلاق البخاري القول بأنه حديث منكر هذا ينصب على المتن دون الإسناد؛ إذ إنه من المعلوم قطعاً أنك إذا بحثت في أي مسألة من مسائل الشرع فلا بد أن تبحث في الأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على حد سواء، ولا تقل: سأبحث المسألة في كتاب الله، فإن وجدتها اكتفيت بها عن السنة، وإن لم أجدها ذهبت إلى السنة، ومن هنا أتت النكارة؛ لأن الحكم على المسائل الشرعية لا بد وأن يكون نابعاً من الكتاب والسنة على حد سواء، فلما أخّر السنة واعتبرها ليست بلازمة ولا ملزمة إلا بعد عدم العثور على البغية من كتاب الله كانت هذه نكارة في الحديث؛ لأنه يجب البحث أولاً في الكتاب والسنة على حد سواء.
والفاء في لفظ الحديث تفيد الترتيب والتعقيب، كما هو معلوم في الأصول.
وقد تتابع أهل العلم إلى يومنا هذا على أن هذا الحديث غير صحيح، وشذ بعض الناس الذين ليس لهم أي باع في الحديث فصححوه وعملوا به، لا من باب أنه حديث صحيح، ولكن من باب أنهم أدخلوا أنفسهم في باب لا يحسنون الدخول منه، ثم بعد ذلك شنوا حرباً شعواء على أهل الحديث.
وهناك رجل في جامعة القاهرة صحح هذا الحديث، وهو ليس محدثاً ولا شبه محدث، بل ولا فقيه ولا أصولي، وهذا غالب وضع الأساتذة، وقال لي أحد الإخوة الذين استمعوا إليه: إن فلاناً يقول: إن هذا الحديث حديث صحيح، ومن قال عنه منكر فإنما هو منكر، وأن هذا الأخ قال له: يا أستاذ! البخاري يقول عن هذا الحديث: إنه منكر، قال: ومن هو البخاري؟ إنما البخاري أحد طلاب العلم! فقال له: والألباني يقول عنه: إنه منكر، فقال: ومن الألباني هذا؟ ولم يُذكَر له عالم من علماء الحديث إلا وقال: ومن فلان؟ ومن فلان؟ وهذا طريق المغتر، ولا عبرة بالتعويل عليه.
فأتيت بالبحث الذي كتبه شيخنا الألباني في الضعيفة، وهو اثنتا عشرة ورقة، وقلت لهذا الأخ: انسخ هذا الكلام بخطك وخذه وادفعه إلى ذلك الأستاذ، فأعطاه للأستاذ فقرأه وسر به جداً، وفي محاضرة أخرى قال: هناك أحد الطلاب كتب بحثاً طيباً جداً، ويبدو أنه مجتهد، ومن الواضح أنه يفهم كثيراً في الحديث، وظل يثني ويمدح على هذا الطالب الذي كتب هذا البحث، وقرأ بعض الصفحات منه على الطلاب، فسمعه طالب متنبه وقال له: هذا كلام الشيخ الألباني في الضعيفة، فقال: ولهذا أنا أقول: إن هذا الحديث صحيح.
ونحن لا نحب تقليد الشيخ ناصر ولا غيره، فالتقليد مكروه ومبغّض، ونحن نخالف الألباني إذا خالف أهل العلم، ونوافقه إذا وافق أهل العلم، والتقليد منقصة ومعيبة، وهو ليس مدحاً، وعلينا اتباع الحق سواء كان عند الألباني أو من عند غيره.
وقد حمل هذا الأستاذ شنآنه على أهل السنة فدفع كل ما يأتي من طريقهم، وهم أهل التخصص، وهم أهل الفتوى حقاً في هذا الفن.
فهذا الحديث حديث منكر رغم شهرته عند الأصوليين.