ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء عصر الخلفاء الراشدين شدد هؤلاء الخلفاء في قبول الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعملوا على ضبطها وتقليلها؛ خشية انفلات الناس عن القرآن الكريم واشتغالهم بها، وخوفاً من أن يتخذها المنافقون ذريعة للزيادة فيها، وسلماً لتزييف الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولئلا تزل أقدام المكثرين فيسقطوا في هوة الخطأ والنسيان، فيكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعرون.
وأما عملهم على التقليل من الرواية فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قيل له: أكنت تحدث في زمن عمر هكذا؟ أي: أكنت تكثر من الرواية في زمن عمر كما تكثر في هذا الزمان؟ قال: لو كنت أحدث في زمان عمر مثلما أحدثكم لضربني بمخفقته، أي: بالدرة.
وجاء مسنداً إلى عمر رضي الله عنه أنه قال: أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم.
وعن عثمان أنه أرسل السائب بن يزيد إلى أبي هريرة رضي الله عنه فقال: قل له يقول لك أمير المؤمنين عثمان بن عفان: ما هذا الحديث عن سول الله صلى الله عليه وسلم؟ -أي: ما هذا الحديث الكثير الذي تحدث به عن رسول الله؟ لقد أكثرت لتنتهين أو لألحقنك بأرض دوس، وهذا تهديد من عثمان بن عفان لـ أبي هريرة، وأبو هريرة دوسي.
وقد دافع أبو هريرة رضي الله عنه عن نفسه حينما خشي على نفسه التهمة، فأجاب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حينما قالت له: ما أكثر ما تحدث عن رسول الله -أي: إنك تحدث كثيراً- إنك لتحدث بأشياء ما سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها، فرد عليها بقوله: كان يشغلكِ عنها المرآة والمكحلة، أي: أن السبب في عدم سماعكِ للرواية التي سمعتها شغلك بالتزين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما أنا فكنت أتبعه على شبع بطني، وفي رواية عند البخاري أنه قال: كان الأنصار أهل زراعة، وكان أهل مكة أهل تجارة، فكان هذا ينصرف إلى تجارته وهذا ينصرف إلى زراعته، وأما أنا فكنت ألزم النبي صلى الله عليه وسلم.
وبناء عليه فقد تحمّل أكثر من غيره.
يقول: كان يشغلكِ عنها المرآة والمكحلة، ولم يشغلني عنها شيء.