[العبرة في كثرة الرواة بأقل طبقة من طبقات الإسناد]
العبرة في الحديث بأقل طبقة، فلو كانت أقل طبقة من طبقات الحديث فيها راو واحد فقط، كأن يروى من طريق صحابي واحد فهو الغريب، وهو أحد أقسام الآحاد، وإن كان أقل طبقاته اثنين فهو العزيز، أو ثلاثة فهو المشهور، وهما من قسم الآحاد.
فلو روى الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام مائة صحابي، ثم أخذه عن مائة مائتان، وعن مائتين ثلاثمائة، ثم رواه عنهم واحد فقط، ثم أخذه عنه عدد كثير فهو آحاد، ولا يمكن الجزم بصحته؛ لأن الراوي الواحد يجري عليه الخطأ والنسيان والسهو، ولو كان راوياً صادقاً وحافظاً متقناً وضابطاً لكل ما يتكلم به فيمكن أن يخطئ أو يخيّل إليه أو ينسى ولو مرة، فلا يمكن الجزم أن خبره صدق؛ لأنه يعتريه الخطأ والنسيان ولو كان صحابياً.
وكون الصحابي عدلاً فهذه المسألة متعلقة بديانة الصحابي، فالصحابة في دينهم غير متهمين قطعاً، ومن اتهمهم فهو المتهم، ولكن الصحابي بشر يخطئ ويصيب، وينسى ويحفظ، فمثله مثل غيره من الأمة في مسألة الضبط والنسيان، فهما يجوزان عليه كما يجوزان على غيره، وهو أعدل ممن أتى بعده؛ هذا هو ديننا، وهو عقيدة أهل السنة والجماعة.
ويمكن أن يسمع الحديث الجمع الكثير ولا يرويه منهم إلا واحد، فقد كان عدد المسلمين في حجة الوداع مائة وأربعة عشر ألفاً، وخطب فيهم صلى الله عليه وسلم خطبة الحاج المعروفة التي أوصى فيها بالدماء والأموال والأعراض، وقال فيها: (يا معشر المسلمين! في أي يوم أنتم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أليس هذا يوم النحر؟ في أي شهر أنتم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم).
ثم قال: فإني أوصيكم بكذا وكذا وكذا، فأوصاهم بالدماء والأموال والنساء وغير ذلك، فهل يتصور أنه لم يحضر هذه الخطبة غير جابر بن عبد الله الأنصاري؟ فهو الذي رواها في صحيح مسلم، والصحابة كلهم لم يكتبوها ولا رووها، وإنما رواها جابر بن عبد الله فقط، فهذه الخطبة من حيث السماع حصل لها التواتر في درجة الصحابي، وأما في الرواية فلم يحصل لها تواتر.
وكذلك حديث: (إنما الأعمال بالنيات) على افتراض أنه لم يسمعه من النبي عليه الصلاة والسلام إلا عمر بن الخطاب، فإذا كان عمر قد قال هذا الحديث على المنبر في الخطبة يوم الجمعة في خلافته فهل يتصور أنه لم يكن في المسجد غير علقمة بن وقاص الليثي؟ فقد كان المسجد ممتلئاً، ولكن لم يروه عن عمر إلا ابن وقاص الليثي، ولم يروه عن الليثي إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولم يروه عن التيمي إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم أخذه عن يحيى ما بين المائتين إلى السبعمائة نفر على اختلاف الروايات.
وهذا الحديث رغم أنه مشهور جداً إلا أننا لا نستطيع أن تقول عنه: إنه متواتر، فهو آحاد؛ لأن التفرد حصل له في أربع طبقات، في طبقة عمر رضي الله عنه، وطبقة الليثي، وطبقة التيمي، وطبقة يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم حصل له التواتر في الطبقة الخامسة.
فالحديث آحاد؛ لأنه فقد الشرط الأول -الذي هو كثرة الطرق- في الطبقة الأولى والثانية والثالثة والرابعة، فإن حصل له بعد ذلك ألف تواتر فلا يخرج عن كونه حديث آحاد؛ لأن العبرة بأقل الطبقات.
وكل طريق بمفرده آحاد، وبجمع هذه الطرق من كتب السنة ستجد أن كل طريق غير الطريق الآخر، ثم بالاجتهاد وجمع طرق وروايات الحديث من كتب السنة نعرف أن الحديث متواتر أم غير متواتر، لا أن نذهب إلى كتاب البخاري فقط ونظن أننا سنجد للحديث فيه خمسين طريقاً أو مائة أو مائتين في مكان واحد، فالمسألة ليست هكذا، ولا يمكن أن تكون هكذا.
فمثلاً حديث: (من كذب علي متعمداً) يمكن أن يرويه البخاري مرة واحدة، ومسلم مرة واحدة من طريق ثان، وأبو داود من طريق ثالث، والترمذي من طريق رابع، والنسائي من طريق خامس، وابن ماجة من طريق سادس، والبيهقي وغيره من المصنفين كل واحد يرويه من وجه آخر، ومن طريق صحابي لم يروه عنه المصنف الآخر، فحين نجمع طرق الحديث من هذه الكتب سنجد أن الحديث رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسة أو ستة وعشرون صحابياً مثلاً، وأخذ عنهم أربعون أو ستون أو أكثر من ذلك.
وإذا كان للحديث ثلاث طرق صحيحة وبقية الطرق ضعيفة، فلا اعتبار بهذه الطرق؛ لأنها غير مشعرة بتواتره في هذه الحالة.