لم ينته هذا القرن حتى وجد كثير من أنواع علوم الحديث، ووضعت له الضوابط والاصطلاحات، ولكن لم يدون منها إلا شيء قليل، ومعظمها كان محفوظاً في الصدور، كشأن أي علم من علوم الإسلام، إلا ما كتبه الإمام الشافعي من فصول وأبحاث داخل كتابه الرسالة، وشروط الحديث الصحيح، فالإمام الشافعي هو واضع شروط الحديث الصحيح في كتاب الرسالة، وتكلم عن شروط حفظ الراوي والرواية بالمعنى، والمدلِّس وقبول حديثه، كما أنه ذكر في كتابه الأم الحديث الحسن، وتكلم في الحديث المرسل، وناقش الاحتجاج به بقوة، وبحث في غير ذلك من علوم الحديث، ثم نشطت حركة التدوين في القرن الثالث.
فالقرن الثاني كان بداية حركة التدوين، ثم نشطت حركة التدوين في القرن الثالث، وخاصة تدوين الحديث، ولو نظرت إلى كتب الحديث والسنن المعتمدة -الصحاح منها والمسانيد والمعاجم- لوجدت أن معظمها صنّف في القرن الثالث، ومنها الكتب الستة، ومسند الإمام أحمد بن حنبل وغيرها من الكتب المعتمدة في الحديث.
ثم استقل كل علم بذاته في القرن الثالث، فاستقل علم الفقه، وعلم العقيدة، وعلم الجرح والتعديل، وظهر علم المصطلح.
ففي القرن الأول إلى منتصف القرن الثاني لم يكن تقسيم العلوم معروفاً، ولكن بظهور القرن الثالث ظهرت الاستقلالية التامة لكل العلوم بعضها عن بعض.
يقول: واستقل كل علم من العلوم استقلالاً متميزاً عن غيره، فصار يقال: علم الحديث الصحيح، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم الجرح والتعديل، وعلم أصول الفقه، وغير ذلك من العلوم.